السبعينيات: إن النفط والقمح سلع استراتيجية ؛ ولقد ارتفعت أسعارهما بشكل ملحوظ. وقررت الدول العربية حينئذ حظر توريد النفط للولايات المتحدة الأمريكية وبدأت الولايات المتحدة التفكير في الرد بالمثل من خلال فرض حظر على الحبوب. ولقد أثار هذا الموقف قلق دول الخليج ونظروا في خطة لتطوير السودان كسلة خبز عربية.
غير أن هذه الخطة تتكشف بحلول الثمانينيات وسط حالة من عدم الاستقرار السياسي، تصاميم مشروعات مضللة، ومزاعم فساد تحت الحكم السوداني (حكم نميري). عوضا عن هذا، تشرع المملكة العربية السعودية في تطبيق برنامج دعم القمح داخليا. ومن خلال استخدام حوالي خُمس الإيرادات النفطية، تعتمد السعودية على الاستخدام (غير المستدام) للمياه الجوفية الأحفورية غير المتجددة و لقد أصبحت سادس أكبر مُصدر للقمح في العالم مع بداية التسعينات.
المضي بسرعة وصولا لعام 2008: ترتفع أسعار السلع مرة أخري بشكل كبير وعلى السعودية أن تستبعد برنامج القمح تدريجيا نتيجة لنفاد مخزون المياه الجوفية. تفرض البلدان المصدرة للمنتجات الزراعية مثل الارجنتين وروسيا و فيتنام قيودا على الصادرات انطلاقا من قلقها على أمنها الغذائي. ورغم أن القيود على الصادرات مؤقتة، فقد تفاعلت دول الخليج مع الموقف بالفعل وأعلنت عن استثمارات زراعية بالخارج لتأمين الحصول على الغذاء بشكل مزدوج وتفضيلي. مرة أخرى، تقع السودان في أعلى قائمة البلدان المضيفة، جنبا إلى جنب مع بلدان أخرى تواجه انعدام الأمن الغذائي في الجنوب.
بالنظر للقيمة الاسمية لتلك المبادرات المعلنة، فإن الإعلام يُجمل حائزي الأرض الزراعية بدول الخليج الذين يزرعون مساحات شاسعة من الأراضي. غير أن أغلب هذا المشروعات إما لم ترى النور أبدا أو تنفذ فقط على جزء يسير لا يذكر من المساحة المعلنة. في الواقع، قامت دول الخليج بتمويل أسواق زراعية متقدمة مثل استراليا أو الارجنتين ، و لم تمول أيا من الأسواق في البلدان النامية.
إن الاكتفاء الذاتي الداخلي والاستثمار الأجنبي لن يكفلا تلبية الاحتياجات من الواردات الغذائية في المستقبل لدول الخليج. فلا توجد مياه كافية لتحقيق الاكتفاء الذاتي، كما أن الاستثمار الأجنبي قد يكون باهظا في الأوقات الآمنة و مراوغا في أوقات الأزمة في حال وضع الحكومات المضيفة قيودا على الصادرات. ولذا فقد استسلمت دول الخليج لواقع الاعتماد على الواردات الغذائية والحاجة إلى المشاركة في النظام الغذائي العالمي والعناصر متعددة الأطراف ذات الصلة. ولقد كان للاعتبارات المرتبطة بالتجارة مثل التخزين الاستراتيجي، وتنوع العرض، وأمن مسارات النقل، دور أهم في أنشطتها الاستراتيجية. وفي منظمة التجارة العالمية، قامت دول الخليج بدعم مقترح مقدم من اليابان وسويسرا لتنظيم القيود على الصادرات الغذائية. وقد نشهد في المستقبل مزيدا من المشاركة المماثلة مع المنظمات الدولية والبلدان المنتجة في المستقبل.
لقد شهدت مراكز تداول المنتجات الغذائية في آسيا مثل نوبل، وأولام ، و ويلمر، نموا كبيرا خلال العقد الماضي وأصبحت تتنافس مع المراكز الراسخة في الغرب مثل ADM، بنج، كارجيل، دريفص، و جلينكور. إن منطقة الشرق الأوسط و شمال إفريقيا هي أكبر مستورد صافٍ للحبوب والسكر والدواجن في العالم. ولكن لن يكون مفاجئا أن تطلق بلدان المنطقة مبادرات تجارية مماثلة في المستقبل. وسوف يكسبون عن طريق تجميع المصالح حتى يحظون بسلطة أكبر في السوق وخيارات تجارية. إن مصر تود أن تنشئ مركزا لوجستيا لتداول الحبوب في دمياط بالقرب من مصب قناة السويس. لقد استثمرت دول الخليج في مركز تداول المنتجات الغذائية – جلينكور. ولقد أطلقت الإمارات العربية المتحدة شركة تداول سلع حسب الطلب، تعرف باسم شركة مصادر أبو ظبي (Abu Dhabi Sources).
إذا كان الأمن الغذائي لا يدور حول الاكتفاء الذاتي الغذائي فهو لا يدور حول مجرد توفير السعرات الحرارية. إن الإمداد بالمغذيات الدقيقة مثل الفيتامينات والحديد بشكل كافٍ مسألة ضرورية لنظام غذائي متوازن كما أبرز أحدتقاريرالمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية. إن معدلات التقزم بين الأطفال في منطقة الخليج ليست مماثلة لبلدان أخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا غير أن هذا لا يعني عدم تواجد هذه الظاهرة حيث تتراوح معدلات الانتشار بين 4 و 9 في المائة. وتواجه دول الخليج تحدي وجود سعرات حرارية كثيرة و ليس انعدامها. إن معدلات السمنة وداء السكري من أعلى المعدلات في العالم وتقوم حكومات تلك الدول بشكل متزايد بالتدخل للحد من ذلك عن طريق حملات التوعية وتوفير وجبات مدرسية متوازنة. في المستقبل، يمكن بذل المزيد من الجهد لمجابهة هذا التحدي المتنامي. في الوقت الحالي، تجري مناقشة فرض ضرائب على الوجبات السريعة والمشروبات الغازية في كثير من بلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي المتضررة أيضا من انتشار السمنة وداء السكري بشكل وبائي.
في الختام، فإن الأمن الغذائي الخليجي سوف يشمل إطارا متعدد المستويات يتضمن: تقليل الإنتاج الزراعي المحلي وتحسين كفاءة استخدام المياه، وتنفيذ استراتيجيات تخزين وتداول استراتيجية ، واتخاذ خطوات لحماية الأمن التغذوي. قد يكون للاستثمارات الزراعية الخارجية دور تقوم به ، ولكن فقط في حال إعادة النظر في تصاميم المشروعات. يجب التخلي عن العقلية العقارية التي تهدف إلى الملكية الرسمية للأراضي، زراعة المزروعات، والحصول على الإنتاج الغذائي بشكل مزدوج وتفضيلي. عوضا عن ذلك، يمكن إقامة مشروعات مشتركة تؤدي إلى مشاركة السكان المحليين وفي الوقت ذاته تتناول التحديات البيئية والاحتياجات الاجتماعية الاقتصادية التي قد توفر قنوات للتعاون المفيد.
إيكارت وورتز مؤلف النفط مقابل الغذاء (دار طباعة جامعة أوكسفورد). يمكن متابعته عبر توتير @eckartwoertz