حيث أن الكثير من الإصلاحات الداعمة للفقراء تؤدي إلى تبعات متصلة بإعادة التوزيع، فإنها عادة ما تولد مجموعة من الرابحين و الخاسرين المتصورين. بناءً عليه، فإن عمليات الإصلاح تنحرف بسرعة عن المسار حينما يقوم أصحاب المصلحة الأقوياء الذين سيخسرون الكثير بمعارضة مثل هذه الإصلاحات ويحشدون الاحتجاجات التي تهدف إلى تقويض شرعية الحكومة.
إن هذه القصة التقليدية لسياسة مجموعات الضغط على الحكومة لطالما أوضحت عزوف الحكومات في الشرق الأوسط و شمال إفريقيا ( و في مناطق أخرى) عن الإصلاح المالي لبرامج دعم غير مستدامة، وبخاصة فيما يتعلق باستهلاك الغذاء و الوقود. منذ عام 2011، فإن الأسس المتداعية لبعض نظم الحكم الجديدة في المنطقة ستؤدي بطبيعة الحال إلى تفاقم التحديات المتصلة بإصلاح منظومة الدعم. وفي الواقع، توضح بيانات مسح الرأي العام الذي أجرته أفرو بارومتر (Afrobarometer) في 2013 أنه خاصة في المناطق التي امتد فيها الدعم لفترة طويلة بحيث أصبح جزءا من العقد الاجتماعي بين الدولة و المواطن، فإنه ينظر إلى توفير الحكومة للسلع الأساسية كأحد الخصائص الرئيسية للديمقراطية.
شكل 1: تصورات حول أهم خصائص أي ديمقراطية
المصدر: أفروبارمتر، الجولة 5.
ملحوظة: حجم العينة 1200 في كل بلد. ويتضمن متوسط إفريقيا جنوب الصحراء 28 دولة.
ورغم هذا فإن عددا محدودا للغاية من الحكومات في منطقة الشرق الأوسط و شمال إفريقيا مضت قدما مؤخرا مع إصلاحات من نوع أو آخر لمنظومة الدعم. ما هي ملامح الحكم التي يسرت تلك الإصلاحات؟ وما الذي يفسر الفروقات عبر الدول فيما يتعلق بتصميم هذه الإصلاحات و طبيعتها؟ من المعتاد، حتي يتقبل المواطنون الحاجة إلى إصلاح منظومة الدعم ، أن تتوافر لديهم ثقة كافية في قدرة حكومتهم على تنفيذ الإصلاحات بفاعلية وأن المنافع الناجمة عن الإصلاح التي وعدت بها الحكومة تتحقق. ويمكن أن تعتمد هذه الثقة بدورها على عمليات التقييم في ثلاثة مجالات على الأقل: (1) قدرة الدولة على تنفيذ الإصلاحات بفاعلية؛ (2) التأكد من أن النظام السياسي لديه آفاق طويلة الأجل للحكم وليس مدفوعا فقط بمناشدات قصيرة الأجل و شعبية؛ و(3) آليات مساءلة تستطيع الحكومة من خلالها تقديم مكافأة أو فرض عقوبة حسب مستوى الأداء فيما يتصل بالتنفيذ ويمكن إدراج شواغل المواطنين مسبقا.
يعرض شكل 2 بعض المؤشرات البديلة من خلال المقارنة بين بلدان منطقة الشرق الأوسط و شمال إفريقيا الرئيسية في هذه المجالات الثلاثة استنادا إلى مؤشرات الحكم الرشيد الصادرة عن البنك الدولي. ومن ضمن الاستنتاجات الواضحة المستخلصة من هذا الرسم البياني هو أن معظم بلدان المنطقة تعوزها لحد كبير مقاييس الحكم. ويتراوح المقياس الكامل لهذه المؤشرات من صفر إلى 100، مما يوازي أسوأ و أفضل تصنيف، على التوالي. رغم ذلك، فلا يوجد بلد واحد في المنطقة تجاوز 60، مما يدل على أن أحد البلدان تصنف أفضل من 60 في المائة من بلدان العالم.
شكل 2: مقارنة جودة الحكم في بعض بلدان منطقة الشرق الأوسط و شمال إفريقيا المختارة،2013
المصدر: احتسبت من خلالمؤشرات الحكم الرشيدالصادرة عن البنك الدولي.
وتتمثل الرسالة الأخرى الأساسية في وجود مفضالات مهمة عبر الدول في ميادين الحكم المختلفة. على سبيل المثال، حصلت كلا من المغرب و الأردن على أعلى المراتب بالنسبة للاستقرار السياسي ، مما يوفر حالة من اليقين أطول أجلا للمواطنين. وجنبا إلى جنب مع تونس، فتلك البلدان تحقق أيضا أعلى المراتب فيما يتصل بقدرات الدولة أو “ فعالية الحكومة”، كما تقاس وفق جودة كلا من الخدمة المدنية والقدرة على وضع السياسات و تنفيذها. وفي عام 2014، قامت المغرب بإلغاء الدعم على البنزين، و الذي كلف البلاد حوالي 5 مليارات دولار أمريكي في 2013. وتضمن نهجها التدريجي سياسات للتخفيف عن الفقراء وسعت نطاق التغطية و حجم شبكة الأمان الاجتماعي، فضلا عن الإبقاء على الدعم على القمح و السكر و غاز الطهي. وبالمثل، فإن إلغاء دعم الوقود في الأردن في عام 2012 صاحبه برنامجا لتعويض الأسر المعيشية منخفضة الدخل وذلك لمساعدتها على التكيف مع هذه المسألة. إن مثل هذه السياسات ، اللازمة لحماية أكثر الفئات المستضعفة، تتطلب مستوٍ عاليا نسبيا من القدرة.
من الواضح أن تونس هي الأفضل مرتبة فيما يتعلق بالصوت و المساءلة، مدعومة بالانتخابات متعددة الأحزاب و الأدوات الجديدة مثل الموقع الإلكتروني مرسوم 41، والذي يسمح للمواطنين بالحصول مباشرة على الوثائق العامة. وفي ظل البيئة المفتوحة بشكل متزايد، فمن الاعتيادي أن محاولات الحكومات لإصلاح منظومة دعم الوقود في بدايات عام 2013 قد قوبلت باحتجاجات واسعة النطاق. غير أن كثير من الأحزاب السياسية تقر في الوقت الراهن أن إصلاح منظومة الدعم أمر جوهري لسلامة الاقتصاد الكلي داخل البلاد. على سبيل المثال، فإن الحزب الفائز في الانتخابات البرلمانية و الرئاسية في عام 2014 ، نداء تونس ، قد أورد عملية تقليل الإنفاق العام عن طريق تخفيض الدعم كأحد الوعود في بيانه الرئيسي.
تمثل كلا من ليبيا و اليمن تناقضا صارخا حيث تفتقر إلى القدرة و الاستقرار و المساءلة في الوقت ذاته جنبا إلى جنب مع وجود انقسامات اجتماعية حادة. وبناءً عليه، لا يوجد فقط احتمال أكبر لإدارة خاطئة لإصلاحات السياسات بل أمكانية أكبر أن يكون لهذا تبعات اجتماعية واسعة النطاق. و بالطبع، حينما خفضت الحكومة اليمنية من دعم الوقود في عام 2014، فقد تراجعت عن وعدها بإعادة توجيه الوفورات من التخفيضات. وقد أدى هذا إلى غضب عام و أدى إلى مظالم تمكن الحوثيون من حشدها ، مما أدى إلى صراع أهلي مدمر.
ملحوظة: تضم فعالية الحكومة جودة الخدمات العامة، ومهنية الخدمة المدنية و استقلالها عن الضغوطات السياسية، وجودة عملية وضع السياسات و تنفيذها، ومصداقية التزام الحكومة بتلك السياسات. إن الصوت و المساءلة تعكس ما إذا كان المواطنون يمكنهم اختيار حكومتهم وما إذا كان لديهم حرية التعبير و تكوين الجمعيات، ولديهم إعلام حر. أما الاستقرار السياسي فهو احتمالية زعزعة استقرار الحكومة أو الإطاحة بها بأساليب غير دستورية أو عنيفة.
ومع بدء أسعار النفط العالمية في الانخفاض، توجد فرصة لبلدان عدة لخفض الدعم الحالي للوقود. غير أنه في ظل التنوع في خصائص الحكم داخل المنطقة، فإن متابعة هذه الفرصة سيتضمن التأكيد على فكرةبريان ليفي “ العمل مع الانسياب” . و يشدد هذا المفهوم على أن الإصلاحات المتصلة بالتنمية يمكن أن تثمر فقط في حال مواءمتها عن كثب مع السياقات المؤسسية و السياسية. على سبيل المثال، حينما يكون الصوت و المساءلة عالية النبرة و حينما يبرز احتمال تقويض الاحتجاجات أو الجداول الزمنية للانتخابات لالتزام القادة طويل الأجل بعملية الإصلاح، فالأمر يستلزم حينئذ وجود آليات لتيسير الوصول إلى توافق في الآراء والقبول من جانب كل أصحاب المصلحة الرئيسيين وذلك أثناء المناقشات المرتبطة