يحق لدول الشرق الأوسط في منطقة الهلال الخصيب أن تفخر بأرثها الزراعي. ودون الابتكارات التي أنشأت الزراعة الحديثة منذ 10,000 عاماً، ما كان للمجتمعات المستقرة والحضارات المتقدمة أن تظهر. وكما هو الحال الآن، فإن هذه المنطقة – التي تمتد من مصر عبر الأردن، ولبنان والعراق حتى إيران- كانت موطناً لأصل قيم بدرجة كبيرة: مجموعة من النباتات البرية الصالحة للأكل ذات خواص يمكن أن تعزز عن طريق الاختيار و تربية النباتات لتوفر محاصيل عالية الإنتاجية ، مغذية، وعالية الطاقة التي نعتمد عليها اليوم.
يوجد التنوع الجيني الوراثي للنباتات الزراعية في المنطقة – في الأساس الحبوب والبقول- بين الأقارب البرية للمحاصيل الحديثة و قبل ذلك، الأنواع المستأنسة التي تكيفت بشكل طبيعي مع بيئتها المتغيرة. إن المزارعين التقليديين، الذين يدركون فوائد الاحتفاظ بمصدر من جينات النبات للتكيف مع بيئة متغيرة، حافظوا على هذه الأنواع المحلية حتى يمكن خلطها بأنواع أخرى واختيار المحاصيل المقاومة للتهديدات الناشئة من الآفات والأمراض والطقس الصعب.
غير أنه رغم قيمتها القديمة، فإن كثير من الأنواع البرية ( المعروفة بالأقارب البرية للمحاصيل) والأنواع المستأنسة المُعدلة محلياً ( المعروفة بالسلالات البرية) قد أصبحت معرضة للخطر على نحو خطير في الآونة الأخيرة. حيث أن تزايد التوسع العمراني، خسارة الموائل، التدهور البيئي، الممارسات الزراعية المدمرة وتغير المناخ، كلها عناصر تعصف بتنوع تلك الأنواع وانتشارها.
غير أن هناك حاجة ماسة إليها الآن أكثر من أي وقت مضى، وذلك في ظل وجود عوامل مماثلة تهدد أيضا الأمن الغذائي الإقليمي – والعالمي. إن تزايد عدد السكان والتغير المناخي تعني أن بلدان الشرق الأوسط يجب أن توفر الآن الغذاء لعدد أكبر من السكان على مساحة أقل من الأرض، مع وجود موارد مائية أقل وفي ظل ظروف طقس أصعب.
إن هذه الدول ذات ريادة في بقية العالم : أوضحت دراسة حديثة أنه في حال عدم اتخاذ أي خطوات للحيلولة دون هذه التهديدات، فإن الأمن الغذائي العالمي يمكن أن يقوض بشدة بحيث يمكن أن يشهد عام 2040 انهياراً منتظماً للنظام الغذائي العالمي وانتشاراً للاضطرابات الغذائية.
إن مثل هذه التحديات تفرض بشكل عاجل على البلدان العربية أن تقنن وتحفظ وتستغل تنوع المحاصيل في منطقتها. فمن غير المرجح أن تستمر بعض المحاصيل الحالية في الإثمار في بيئة مختلفة. أوضح د.إحسان دولو، عالم بهيئة التنوع الحيوي الدولية، أن الأقارب البرية للمحاصيل المستأنسة هي بمثابة مستودع للمواد الجينية الوراثية، مع إمكانية استخدامها لتطوير أنواع جديدة ومُحسنة من المحاصيل. ويوضح: “ وفقا لواقع أن الأقارب البرية للمحاصيل قد تطورت في الطبيعة، فقد تمكنت من تطوير خواص جديدة مُعدلة يمكن أن تفيد المزارعين أو المربين لإنتاج أنواع قادرة على تحمل التغير المناخي بدرجة أكبر.”
في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الفائت، حضرت مؤتمراً في الإمارات العربية المتحدة، وشهد تمثيل الكثير من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، و ركز تحديداً على هذه الحتمية.
في اجتماع تحت عنوان “دور الموارد الجينية النباتية العالمية في الأمن الغذائي والزراعة المستدامة في الشرق الأوسط” ومن تنظيم المركز الدولي للزراعة الملحية، والصندوق الاستئماني العالمي لتنوع المحاصيل، و بدعم من هيئة التنوع الحيوي الدولية، حدد المشاركون الأولويات لضمان الأمن الغذائي في المنطقة.
ومن أهم المتطلبات حماية تنوع المحاصيل في الأرض البرية والزراعية. ولتفعيل ذلك، من المهم الاستثمار لتعزيز بنوك الجينات للنباتات المحلية والإقليمية ( “ حماية المحاصيل خارج موضعها الأصلي”)، وإقامة محميات طبيعية حيث يمكن للأقارب البرية للمحاصيل أن تنمو بشكل آمن ( “ حماية المحاصيل في مكانها الطبيعي”)، ودعم المزارعين لاستخدام وحماية الأنواع التقليدية ( “ الحماية في الحقل”). من المهم أيضا الاستثمار في برامج علمية وذلك لتحديد وحماية ودراسة المواد الجينية القيمة من هذه الأصناف حتي يتسنى تطوير جيل جديد من المحاصيل قادر على التحمل، ومقاوم للمناخ، وذلك للمنطقة وبقية العالم.
من العناصر الجوهرية في مثل هذه المحاولات تطوير خطط و شراكات وطنية وإقليمية، ونُهج ومنهجيات جديدة، وأفضل الممارسات. يوضح الدليل القاطع أن هذا العمل سيصبح أكثر فاعلية في حال تنفيذه من خلال شراكة بين بلدان المنطقة جنبا إلى جنب مع الصندوق الاستئماني العالمي لتنوع المحاصيل وهيئة التنوع الحيوي الدولية، حيث لديهما مخزون من الخبرة ذات الصلة، وبخاصة في مجال حماية المحاصيل خارج موضعها الأصلي وفي مكانها الطبيعي.
إن مجابهة التهديدات أمام الأمن الغذائي في منطقة الشرق الأوسط وما بعدها يتطلب إقرار ومناقشة التهديدات الموازية للتنوع الزراعي. ورغم خطورة الوضع، فإن تنفيذ مبادرات طموحة لتقنين وحماية هذا التنوع، والذي لايزال اليوم من أهم أصول المنطقة، لن تحشد فقط أمام التغير المناخي بل ستصبح حجر الزاوية لنهضة زراعية جديدة.