هذه هي السياسة، آلا تفهم؟ ففي بلدان قليلة من العالم، تأثر الأمن الغذائي لحد كبيربالتطورات السياسية كما هو الحال في العراق. إن صعود (وسقوط) الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) يمثل فقط الحدث الأخير في سلسلة من الآثار السياسية على الأمن الغذائي؛ ولا تعد العراق الدولة الوحيدة في هذا السياق: حيث توضح دراسات التحليل المقارن النوعي أن الزراعة والأمن الغذائي لا يتأثران فقط بالصراعات في العالم؛ بل أن تردي وضعهما يؤثر أيضا على الصراع ذاته. وهذه العلاقة ظاهرة بشكل خاص في الشرق الأوسط.
إن الحصار الاقتصادي متعدد الأطراف على العراق بقرار أممي تسبب في ضرر بالغ في الفترة بين 1990 و2003. فقد تردي وضع الأمن الغذائي. وبعد عام 1996، أدى برنامج النفط مقابل الغذاء إلى تخفيف الحظر لحد ما عن طريق السماح بالاستفادة من الصادرات النفطية تحت مراقبة الأمم المتحدة في استيراد الغذاء، غير أن وضع الأمن الغذائي ظل أسوأ عما كان عليه قبل عام 1990. بعد سقوط نظام صدام حسين، شهدت البلاد بعض أوجه التحسن في الوضع في العقد الأول من الألفية. من خلال مسح اجتماعي- اقتصادي في أواخر عام 2007، عزا برنامج الأغذية العالمي التحسن في وضع الأمن الغذائي إلى الحد من الصراع ومقتل المدنيين الناجم عن العنف، فضلا عن تحسن المؤشرات الاقتصادية الكلية والمساعدة الإنسانية. لقد أوضح المسح الذي أجرته شبكة معرفة العراق وكذلك دراسات البنك الدولي المزيد من التحسن حتى 2011/2012.
على النقيض من تلك المسوحات الاجتماعية – الاقتصادية، أفاد العراقيون أن أغلب الظروف المعيشية متدهورة وذلك من خلال الدراسات الاستقصائية الممثلة لاستطلاع جالوب العالمي في الفترة من 2008 – 2015، وخاصة بعد عام 2012( انظر الجدول). وبعد تحسن الأوضاع لفترة وجيزة من عام 2008 إلى 2009، فقد زاد عدد من أفادوا بالعجزعن شراء غذاء كافٍ خلال العام السابق من 12 في المائة في عام 2009 إلى 48 في المائة في عام 2015. ولقد تنامت بشكل حاد المفاهيم السلبية عن المأوى المناسب ودخل الأسرة والأوضاع الاقتصادية العامة فيما بين عامي 2008 و2015. علاوة على ذلك، ظل معدل عدم الرضا عن جودة المياه عند مستويات مرتفعة باطراد من 50 إلى 71 في المائة كما ارتفعت نسبة المشاركين في استطلاع الرأي الذين يفكرون في الهجرة بشكل دائم لدولة أخرى لتصل إلى 28 في المائة في عام 2015.
المصدر: جالوب (2016). استطلاع جالوب العالمي. بيانات العراق 2008 – 2015
خلال الفترة ذاتها حينما أفاد العراقيون بتدهورالظروف المعيشية، زادت العراق من إنتاجها النفطي بما يتجاوز 50 في المائة وظلت أسعار النفط مرتفعة أغلب الوقت ( انظر الشكل). بعد فترة إصلاح قصيرة في 2008/2009، انخفضت أسعار النفط دون المائة دولار في البرميل الواحد وذلك في النصف الثاني من عام 2014. وعليه، فإن وضع الإيرادات في الاقتصاد العراقي الذي يعتمد بشدة على النفط كان مريحاً نسبياً خلال هذه الفترة. ولقد شهد إجمالي الناتج المحلي للفرد نمواً كبيراً، وتراجع بنسبة طفيفة في 2014/2015؛ فضلا عن أن إنتاج القمح، أهم محصول غذائي في البلاد، قد زاد بشكل كبيربعد الجفاف الذي ضرب البلاد في عام 2009 إضافة إلى حوافز الإنتاج من قبل الحكومة العراقية.
الشكل: العوامل المؤثرة على الأمن الغذائي في العراق 2008- 2015 (2008=100) المصدر: إيكارت وورتز، “ الأمن الغذائي في العراق: نتائج المسوحات الكمية والنوعية”،الأمن الغذائي.
لقد انخفض الأمن الغذائي في العراق منذ عام 2009، رغم تحسن المؤشرات الاقتصادية الكلية، ومن المحتمل أن يكون ذلك بسبب تدهور الوضع الأمني والعوامل السياسية ذات الصلة. ويؤكد ذلك مسح نوعي عبر الانترنت أجري بين 152 خبيراً عراقياً من الأوساط الأكاديمية والوزارات والمنظمات غير الحكومية . يحدد العراقيون في معظمهم أن عدم الاستقرار السياسي وسوء الإدارة يمثلان تحديات كبرى أمام الأمن الغذائي. إن الاستراتيجيات التي تدعم الأمن الغذائي، مثل شبكات الأمان الاجتماعي، تنظيم الأسرة، التعليم، الإنتاج الزراعي، سبل العيش في الريف، وانخفاض التعرض لتقلبات السوق عن طريق التخزين وسياسات التحوط، كلها مهمة وجوهرية في العراق كما هو الحال في الشرق الأوسط ككل؛ غير أن العوامل السياسية تقوم بدور كبير في الأمن الغذائي في العراق، وفي التحديات السابقة والتدهورالحالي في هذا المجال. من غير المحتمل أن تؤدي “وصفات” السياسات التكنوقراطية إلى تحسن وضع الأمن الغذائي في غياب الاستقرار السياسي والإدارة الجيدة.
- هذه المقالة معدلة من المقال التالي الذي نشر في دورية الأمن الغذائي: إيكارت وورتز، “ الأمن الغذائي في العراق: نتائج المسوحات الكمية والنوعية”، الأمن الغذائي 2017.