أعلن مؤخراً رئيس الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة أن العالم واجه أسوأ أزمة إنسانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مع وجود ما يزيد على 20 مليون شخص يواجهون خطر الجوع. ويرجع هذا بدرجة كبيرة إلى النزاعات والصراعات داخل المنطقة العربية وحولها. يتعين على الحكومات الوطنية والمنظمات الدولية اتخاذ خطوات جذرية لوقف تصاعد هذه الكارثة الإنسانية خلال العام المقبل.
في الوقت ذاته، يجب على العاملين منا في المنطقة العربية التفكير في هذا الوضع أيضا على المدى الطويل. وقد أوضحت أبحاث لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) وجود روابط راسخة بين الصراع وانعدام الأمن الغذائي في المنطقة العربية. من أفضل الطرق للحيلولة دون انعدام الأمن الغذائي بسبب الصراعات تجنب انتكاسة الدول فيما بعد الحرب والعودة إلى دائرة الحرب الأهلية. إن الحروب تنتهي، وعليه فمن الضروري الإعداد لبناء السلم والتعافي والفترة الانتقالية فيما بعد الحرب بشكل فعال ومستدام – وخاصة في العراق وليبيا وسورية واليمن.
كيف تصمم البلدان المتأثرة بالصراعات استراتيجيات ما بعد الحرب ؟ هل يجب أن تركز على الإصلاحات السياسية؟ هل تركز على إعادة الهيكلة الاقتصادية؟ عدالة ما بعد الحرب؟ الأمن والنظام العام؟ الإغاثة الإنسانية وسبل العيش؟ رغم أن هذه النقاط قد تغري بالإجابة “كل ما سبق”، فإن حكومات ما بعد الحرب عادة ما تواجه الكثير من القيود المالية وقيود في القدرات والوقت. وعليه فمن المهم تحديد الأولويات والتسلسل الزمني لجهود التعافي.
شروعا ً في الإجابة على هذه الأسئلة، قمت مؤخراً بنشر ورقة عمل في لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا، ومقرها بيروت، لبنان. في هذه الورقة، قمت بإجراء تحليل إحصائي على مجموعة بيانات لأحداث ما بعد الحرب منذ عام 1970 وذلك لتحديد عوامل الخطر المتصلة بالانتكاسة والعودة إلى الحرب. وتولي الورقة اهتماما خاصاً بالعوامل التي يعتقد أنها تدفع بأنماط الحرب وعدم الاستقرار في المنطقة العربية – مثل الاستبداد، بطالة الشباب، والريع النفطي.
يستعرض الجدولان 1 و 2 بعض الإحصاءات الوصفية حول خبرات ما بعد الحرب منذ عام 1970. هناك تباين واضح بين الأوضاع والظروف فيما بعد الحرب وأطر السياسات. إن الشواهد في المنطقة العربية منذ عام 1970 تتسق لحد ما مع المتوسطات العالمية، فيما عدا الغياب النسبي لبعثات الأمم المتحدة لحفظ السلام وكذلك الديمقراطيات بعد الحروب الأهلية.
يكشف تحليل الانحدار الوارد في هذه الورقة ارتباطات أساسية عديدة. وتُظهر النتائج الرئيسية أن المؤسسات السياسية والعوامل العسكرية ونمو الدخل على المدى الطويل لديها أعظم الأثر على خطر الانتكاس والعودة إلى الحرب الأهلية. من الواضح أن الديمقراطية والانتخابات والأعداد الأكبر من القوات لكل فرد كلها عوامل وقائية، تقلل بدرجة كبيرة من مخاطر الانتكاس والعودة مجدداً إلى حرب أهلية.
إن اللامركزية ونمو الدخل يؤثران بشكل كبير، غير أن هذه الآثار تتغير مع الوقت. تُعد اللامركزية إجراءً وقائياً في المرحلة الأولى بعد الحرب، غير أن خطر الانتكاس يتزايد بصورة كبيرة بعد مرور حوالي 55 شهراً. كما يرتبط النمو الأعلى في دخل الفرد بزيادة خطر الانتكاس حتى ما يقرب من 20 شهراً، ويصبح عاملاً وقائياً بشكل متزايد فيما بعد.
إن التحليل، ضمن نتائج أخرى، يضعف من فرضيات مهمة عدة حول الاستقرار فيما بعد الحرب: يبدو أن معظم المؤشرات الاقتصادية وكل القياسات الخاصة بالعرقية والثقافة ومعظم العوامل المُحددة مسبقاً لا تتسبب في أخطار ما بعد الحرب، بطريقة أو بأخرى، بمعدلات مرتفعة إحصائياً. من الواضح أن القياسات الخاصة بدخل الفرد، الريع النفطي، البطالة، بطالة الشباب، وتقاسم السلطة الاقتصادية لا ترتبط بخطر العودة إلى الحرب.
تبرز أهمية تبعات السياسات فيما يتعلق بهذه الأسئلة: فقد أكدت المنظمات الدولية ، بما في ذلك الأمم المتحدة والبنك الدولي، مراراً وتكراراً على أن الاستقرار فيما بعد الحرب يعتمد على تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية، توليد فرص العمل، والقضاء على الفقر؛ لقد طبقت حكومات ما بعد الحرب سياسات تعكس هذه المعتقدات.
تدل النتائج على أن استراتيجيات التعافي التي تركز على الجوانب التنموية والإنسانية والمدعومة من جانب المجتمع الدولي يجب أن تتابع في الأساس لفوائدها الفعلية، غير أن صناع السياسات لا يجب أن يتوقعوا أن تؤدي هذه الاستراتيجيات في حد ذاتها إلى تحقيق الاستقرار فيما بعد الحرب والحيلولة دون الانتكاس والعودة مجدداً إلى الحرب.
تضعف الصراعات من البنية التحتية والمؤسسات التي تساعد في تحقيق الأمن الغذائي – الطرق، الموانئ، المخازن، صوامع الحبوب، فضلا عن الأشخاص والبرامج التي تنفذ هذه النظم. وعليه، فإن تجنب الانتكاس من الوسائل الفعالة للمساعدة في الحد من انعدام الأمن الغذائي في المنطقة العربية في المستقبل. يدل بحثي على أنه من أجل تجنب تلك العودة إلى الحرب وما يستتبعه من انعدام الأمن الغذائي، فإن المخططين لفترات ما بعد الحرب يجب أن يركزوا على تحسين المؤسسات السياسية وفعالية القطاع الأمني ونمو الدخل على المدى الطويل.
جورج فردريك ويلكسون خبير في العلوم السياسية يعمل بالأمم المتحدة. إن الآراء الواردة هنا خاصة بالمؤلف ولا تعكس بالضرورة آراء لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا(الإسكوا).