إدراج مسألة الأمن الغذائي والتغذوي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في صميم المساعي الرامية إلى بلوغ أهداف التنمية المستدامة
التحقق من عدم تعرض أي انسان، سواء إمرأة أو رجل أو طفل، للمعناة من الجوع يمثل أحد أبرز التحديات التي تواجهها البشرية على مدار العقود الماضية. وعلى الرغم من تعدد الحلول التي تم التوصل إليها في شتى بقاع العالم – بما في ذلك عبر كافة أنحاء “منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” – يعجز مئات الملايين من البشر في العالم عن الحصول على كميات كافية من الطاقة عبر النُظم الغذائية المُتبعة بما يكفل التمتع بحياة تنعم بالعافية والنشاط.
وعلى الرغم من مساهمة الناتج الإجمالي المحلي المُحرز في العديد من أجزاء “منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” في رسم صورة وردية، يواصل نقص التغذية الإطلال بوجهه القبيح. وفي الآونة الأخيرة، شهدت المنطقة زيادة في عدد المصابين بنقص التغذية ومعدل انتشار نقص التغذية على حد سواء. ويُثير تقزم الأطفال القلق البالغ، نظراً للأهمية الحاسمة التي تكمن في الفترة الحرجة الأولى من حياة الطفل أو الطفلة، بواقع ألف (١٠٠٠) يوماً، ليس فحسب بالنسبة للنمو البدني وإنما أيضاَ بالنسبة لنمو الدماغ. ونحن نعلم أنه يتعذر تدارك الضرر الحادث في الدماغ نظراً لأنه لا سبيل للعلاج. وبالإضافة إلى ما سبق، يتم التعرض للعبء المزدوج الناجم عن سوء التغذية بمعدل يُثير القلق وينذر بالخطر على مستوى البلدان الواقعة في “منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”: ارتفاع مستوى الإصابة بالتقزم بين الأطفال جنباً إلى جنب مع المعاناة من فرط الوزن والبدانة بين الأمهات، وغيرها من الأمراض غير المُعدية الأخرى، من قبيل المرض السكري وارتفاع ضغط الدم. وسوف ينجم عن هذه القضايا عواقب وخيمة في حالة الإبقاء على الأوضاع كسابق عهدها والاستمرار في تسيير الأمور على النحو المُعتاد.
وباعتباري شخص نشأ وترعرع في مزرعة ألبان في القلب الأخضر بدولة “هولندا”، ونظراً لسابق التحاقي بالعمل في الجهاز الحكومي بصفتي “وزير الزراعة والطبيعة وجودة الغذاء”، تتصدر الأدوار التي تنهض بها النظم الغذائية المستدامة في قطاع التنمية الاقتصادية، بل وأيضاً في مجال تزويد كافة الأطفال والأسر والمجتمعات المحلية بمستقبل غذائي (مأمون) وجدير بكل منهم، قائمة اهتماماتي ولا يعلوها سوى القليل من الشواغل الأخرى. ويُفيد هذا الوضع بضرورة الالتزام بشكل دوري بالانخراط في عملية تفاعلية تنطوي على إعادة تفكير وإعادة تصميم وتعتمد على ترقب التحديات الجديدة والتصدي لها – مع التركيز على الحلول التي توفر الحوافز لصالح جميع الجهات الفاعلة المعنية. وينصب تركيز “حركة توسيع نطاق التغذية السليمة” في المقام الأول على هذا الغرض: حيث يتم تسييرها من جانب ٥٩ دولة وثلاث (٣) ولايات هندية وآلاف المنظمات التي تُبدي الالتزام تجاه إيجاد حلول محددة تتولى البلدان إدارتها وتخضع لملكيتها في سبيل إنهاء ظاهرة سوء التغذية بكافة صورها لصالح الجميع وعبر كافة أنحاء العالم بحلول عام ٢٠٣٠ – مع اضطلاع الحكومات بدور ريادي في هذا السياق.
وتتمثل بعض المعارف التي (ربما) تتوافر لدينا الآن والتي غابت عنا في القرن الماضي في تعرض جميع البلدان لتحديات سوء التغذية، وكذلك لا تقتصر المساعي الرامية إلى مكافحة سوء التغذية فحسب على التصدي لخطر الجوع الحاد وإنما تتجاوز ذلك النطاق إلى حد بعيد – وذلك على الرغم من التهديدات الناجمة عن “المجاعات الأربعة” والتي تُنذر بارتداد التقدم المُحرز على مختلف الأصعدة. ووفقاً للمعارف المتوافرة لدينا الآن، وحيثما يتعذر إتاحة المواد الغذائية الصحية والأطعمة المُغذية أو حيثما يصعب الوصول إليها، يتعذر في المقابل إحلال الاستقرار وتحقيق الازدهار. ولا ينحصر التحدي الغذائي الذي تتعرض له البلدان الواقعة في “منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” في ندرة الأراضي الصالحة للزراعة فحسب، وإنما ينطوي أيضاً على مسألتي جفاف المناخ والقصور الحاد في الموارد المائية. وبالإضافة إلى ما سبق، تواجه البلدان الواقعة في المنطقة تحديات أخرى من قبيل الاحتياج إلى تحقيق نمو اقتصادي شامل للجميع يُسهم في توفير فرص العمل اللائق بمعدلات كافية، وضرورة صياغة سياسات اجتماعية تُخاطب تلك الفئات التي يشتد احتياجها إلى مثل هذه السياسات. وتتسبب موجات الهشاشة والأزمات التي طال أمدها والصراعات التي اندلعت في تفاقم هذه التحديات.
وتقتضي النُظم الغذائية التي تعاني الاختلال والتي لا جدوى منها سواء بالنسبة للانسان أو بالنسبة لكوكب الأرض بشكل عام – والتي تُعد بمثابة تحدي يواجه “منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” التي تتصف بتنوعها كما تمتد رقعتها على مساحة شاسعة – الانخراط في عملية تنطوي على إعادة تفكير وإعادة تصميم على نحو يفي بأغراض النمو الاقتصادي الشامل والمستدام، نحو مستقبل مزدهر لصالح المجتمع، جنباً إلى جنب مع الإسهام في تعزيز القدرة على مواجهة ظاهرة تغير المناخ والتكيف مع الآثار الناجمة عنها.
وتختص الحكومات بمسئولية الاضطلاع بدور ريادي تجاه ضمان تعزيز اتصاف النُظم الغذائية بالاكتفاء الذاتي، جنباً إلى جنب مع خفض معدل تقلبها – على نحو يكفل تلبية احتياجات جميع النساء والرجال والأسر التي ينتمي إليها كل منهم/ منهن. وينبغي أن تحرص الاستثمارات الموجهة نحو قطاعي الزراعة والانتاج الغذائي على مراعاة متطلبات التغذية وعلى التجاوب مع أوضاع المناخ، وهو ما يمكن أن يعود بنتائج مُجزية ومكاسب متبادلة لصالح جميع الأطراف المعنية، ولكن مع اعتماد نمط تفكير جديد، بل وربما ما هو أكثر أهمية من ذلك انتهاج أسلوب عمل جديد عبر كافة القطاعات الحكومية المختصة، بالتعاون مع مختلف الأطراف المعنية في المجتمع.
ويُفسر هذا الوضع حرص “أهداف التنمية المستدامة” السبعة عشر والتي تتصف بترابطها على إتاحة الفرصة أمام إدراج مسألة التغذية السليمة في صميم “جدول أعمال عام ٢٠٣٠”. إن تحسين التغذية يُعد بمثابة عامل حافز يكفل التمتع بحياة وافرة الصحة، والارتقاء بنوعية التعليم، وتعزيز الابتكارات، والنهوض بمعدل الانتاجية. ويتسنى للفئات التي تحظى بفرص تغذية سليمة تحقيق مستويات دخول تتفوق على الفئات الأخرى بنسبة ٢٥٪. ويمكن أن تؤدي التغذية الجيدة إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي على مستوى البلد المعني بنسبة ١٠٪ على الأقل.
وأتطلع إلى التعرف على السُبل التي تنتهجها الحكومات في المنطقة في إطار السعي نحو التجاوب مع التحديات والفرص التي يطرحها برنامج التحوّل. ويتمثل العامل الحاسم الذي ربما يؤدي إلى تحقيق رؤيتنا لعام ٢٠٣٠ أو الذي قد يتسبب في الإطاحة بها في مدى استعدادنا للاستفادة من النجاحات التي أحرزها الآخرون، بالإضافة إلى مدى إمكانية تكثيف علاقات الشراكة – نظراً لضرورة إشراك مختلف الأطراف الفاعلة، بما في ذلك المجتمع المدني وقطاع الأعمال والوسط الأكاديمي، حول طاولة البحث بغرض حل مشكلة التغذية. ويحث هذا الوضع شركات قطاع الأعمال ومنظمات المجتمع المدني والقطاعات المعنية على إمعان النظر في سُبل التعاون الهادف إلى إحداث تأثير فعال، نظراً لعجز الحكومات على بلوغ هذه الغاية بمفردها وبمنأى عن غيرها من الأطراف المعنية.
وعلى الرغم من المثل العربي الدارج ومُفاده “لا تُقل زرعت حبوب القمح قبل أن تحصدها فعلياً”، فإن على يقين من أنه وفي حالة الالتزام بغرس بذار النُظم الغذائية المستدامة وتقاوى التغذية السليمة على هذا النحو في “منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”، سوف يتسنى لنا أن نجني وفرة من الفوائد – لصالح الجميع وبما يعود بالنفع على الأجيال القادمة.