وجهت الأحداث السياسية الأخيرة التي شهدتها منطقة “الشرق الأوسط” انتباه صانعي السياسات والأطراف المعنية نحو الجهود الرامية إلى تعزيز الاستقرار في المنطقة. وعلى الرغم من ذلك، ليس من المرجح أن يتحقق الاستقرار على المدى الطويل بدون إحداث تحسينات معقولة في مستويات معيشة السكان، ولاسيما الفئات التي تعاني الفقر. وأسفرت الإصلاحات التي أُجريت في منتصف الثمانينات من القرن الماضي عن بعض النتائج الملموسة خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وعلى سبيل المثال، تراجعت النسبة المئوية للفئات السكانية التي تعيش على معدل دخل أدنى من ٣,١٠ دولار في اليوم الواحد من نسبة ٢٤٪ إلى نسبة ١٤٪ بين عام ١٩٩٠ وعام ٢٠٠٨، كما ضاقت فجوة الفقر من ٦٪ إلى ٣,٧٪ في ذات الفترة. وعلى الرغم من ذلك، تسببت الأزمة الاقتصادية العالمية والثورات التي اندلعت في المنطقة العربية في تباطوء وتيرة الإصلاحات وفي انتكاس الجهود الرامية إلى الارتقاء بمستوى الرفاهية الاجتماعية. وكنتيجة لذلك، تواصل الغالبية العظمى من البلدان الواقعة في المنطقة التعرض لتقلبات الاقتصاد الكلي والذي يشوبه الغموض وانعدام اليقين، وارتفاع معدلات البطالة، وانعدام الأمن الغذائي، وتفاقم التحديات البيئية. وفي ظل هذا الوضع، ربما يصح في الوقت الراهن التساؤل بشأن القطاعات الاقتصادية التي تتمتع بالإمكانات التي تُسهم في التعجيل بوتيرة النمو الاقتصادي على نحو مستدام في المنطقة.
ويُلقي إصدار مرتقب من جانب “نين برات وآخرون” (Nin-Pratt et. al) الضوء على الإمكانات القائمة في قطاع طالما تعرض للتجاهل: وهو على وجه التحديد قطاع الزراعة. وعلى الرغم من استئثار قطاع الزراعة بنحو ١٣٪ فقط من الناتج المحلي الإجمالي في منطقة “الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” خلال الفترة من عام ٢٠١٠ إلى عام ٢٠١٤، يؤكد المؤلفون على أهمية هذا القطاع الاستراتيجي من أجل ضمان التنمية المستدامة نظراً للإمكانات التي يحظى بها والتي تكفل إيجاد فرص العمل (والحفاظ عليها)، وتطبيق السياسات الزراعية للتجاوب مع الشواغل البيئية، وتحقيق الأمن الغذائي، والحد من الفقر. وبالإضافة إلى ما تقدم، فإن تفعيل السياسات التي تعود بالنفع على قطاع الزراعة يمكن أن يؤدي إلى تحفيز النمو الاقتصادي من خلال تعزيز التعاون والتضافر مع القطاعات الاقتصادية الأخرى.
يتمتع قطاع التجارة بإمكانات واعدة: وعلى مستوى منطقة “الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”، تستأثر الصادرات الزراعية بحصة كبيرة من إجمالي الصادرات، على الرغم من استمرار انخفاض الحصة النسبية للمحاصيل ذات القيمة المرتفعة التي تتمتع بإمكانات التصدير. ويتناقض هذا الوضع مع الميزة النسبية التي تتمتع بها المنطقة فيما يتعلق بانتاج الفاكهة والخضراوات التي يتسنى تصديرها إلى مناطق تتوافر فيها هذه المنتجات في مواسم لاحقة وتنحصر في بضعة أشهر في العام فحسب. وبالإضافة إلى ما سبق، يُسهم التقارب الجغرافي مع قارة “أوروبا” في تيسير النفاذ إلى الأسواق عالية القيمة في وقت محدود مع انخفاض التكاليف التي يتم تكبدها في هذا الصدد. ويوضح الجدول رقم (١) الإمكانات التي لا يتم استغلالها بالقدر الكافي فيما يتعلق بالتداول التجاري لمجموعة من المحاصيل ذات القيمة المرتفعة. ويُعبر العمود الأول (١) الوارد في الجدول عن “مؤشر الميزة النسبية الصريحة” (index of revealed comparative advantage) (يُرجى الإطلاع على الملحوظة الواردة في الجدول رقم ١)، وهو ما يُدلل على القدرة التنافسية التي تتمتع بها المنطقة فيما يتعلق بتلبية الطلب العالمي على منتجات بعينها. وفيما يتعلق بالبلدان التي تقع في “منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”، تتجاوز حصة المحاصيل عالية القيمة في إجمالي الصادرات الزراعية الإقليمية (total regional agricultural exports) بعدة أضعاف حصة الصادرات من هذه المنتجات في إجمالي الصادرات الزراعية العالمية (total global agricultural exports)، وهو ما يؤكد على الإمكانات التي تتميز بها المنطقة، على النحو الذي يظهر من خلال رصد التدفقات التجارية لهذه المنتجات.
ملحوظة: مؤشر “الميزة النسبية الظاهرة” هو بمثابة مقياس يتم استخدامه في مجال “الاقتصاد الدولي”، كما تم استحداثه في بداية الأمر من قبل “بالاسا ونولاند (١٩٦٥)” (Balassa and Noland (1965.
يتم احتساب مؤشر “الميزة النسبية الظاهرة” للسلعة (س) على أساس حصة السلعة (س) في إجمالي صادرات المنطقة مقسومة على حصة السلعة (س) في إجمالي الصادرات العالمية.
وعلى الرغم من ذلك، وعلى النحو المُبين في الجدول الأول (١) (العمود الثاني)، هناك مجال للتوسع في انتاج هذه المحاصيل عالية القيمة، والتي تتمتع بإمكانيات متميزة تكفل إدرار الدخل مقارنة بالمحاصيل الأساسية التقليدية. وفي الوجه البحري بمصر، على سبيل المثال، يُسهم انتاج الفاكهة والخضراوات والأعشاب العطرية، في انتاج ما يرقى إلى ٤٥٪ من صافي إيرادات المزارع، بينما تُغطي هذه المحاصيل ٣٧٪ فقط من مساحة الأراضي المزروعة. ويبرز أحد الأمثلة الأخرى في الأردن، حيث يُشكل انتاج الخضراوات والفاكهة نسبة ٤٠٪ من القيمة المُضافة الزراعية والعمالة في قطاع الزراعة؛ بينما في تونس، تأتي نسبة ٧٠٪ من حصة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي بشكل مباشر من انتاج الخضراوات والفاكهة.
وبالإضافة إلى ما تقدم، يُعد قطاع الزراعة بمثابة عامل أساسي في توفير فرص العمل في المنطقة. وفي المتوسط، تلتحق نسب ٢٦٪ من القوى العاملة بهذا القطاع، بينما ترتفع هذه النسبة إلى ٥٠٪ في حالة استبعاد بلدان الخليج العربي والتي تتمتع بالثراء. وعلى الصعيد الأخر، تُصنف الزراعة باعتبارها نشاط ريفي هام يستوعب نسبة مرتفعة من الفقراء في المنطقة. وفي بعض البلدان، من قبيل اليمن، تقطن نسبة تتجاوز ٧٠٪ من الفقراء في مناطق ريفية وتعتمد بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر على قطاع الزراعة. وعلاوة على ما تقدم، وبالرغم من انخفاض حصة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي بالنسبة للغالبية العظمى من البلدان، تُمثل حصة القطاع في مجال العمالة نسبة ١٥٪ ونسبة ٥٠٪ - في البلدان ذات الدخل المنخفض وذات الدخل المتوسط، على التوالي. وبناء على ذلك، من المرجح أن تؤثر السياسات التي تنحاز إلى قطاع الزراعة على معدل الفقر.
من هذا المنطلق، كيف يتسنى للبلدان التي تقع في منطقة “الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” تسخير الإمكانات التي يتميز بها قطاع الزراعة في تحقيق التنمية الاقتصادية؟
في المقام الأول، يتعين على البلدان إعادة النظر في السياسات التي تمنح الأولوية لانتاج المحاصيل الأساسية. وعلى النحو المُشار إليه أعلاه، فإن تشجيع انتاج المحاصيل عالية القيمة يمكن أن يؤثر تباعاً على مستويات الدخول وعلى فرص العمل في المناطق الريفية، وهو ما يقترن بتأثيرات اقتصادية متضاعفة ومتعددة نتيجة لتشجيع الخدمات الجديدة اللازمة لانتاج مثل هذه المحاصيل. وبالإضافة إلى ذلك، يعتمد انتاج الخضراوات على كثافة الأيدي العاملة مقارنة بانتاج الحبوب، وهو ما يمكن أن يُترجم إلى توفير المزيد من فرص العمل. وعلاوة على ما تقدم، يمكن أن يؤدي تنويع المحاصيل إلى تحقيق مكاسب فيما يتعلق بتعزيز كفاءة استخدام المياه، كما يمكن أن يُسهم في تحسين مستوى الأمن الغذائي والتخفيف من حدة الآثار الناجمة عن تغير المناخ، بالإضافة إلى الارتقاء بمستوى الصحة والتغذية.
ثانياً، يتسع المجال أمام زيادة الانتاجية وتحسين الكفاءة في انتاج المحاصيل الأساسية وعالية القيمة على حد سواء. وعلى وجه التحديد، تنطوي السياسات الرامية إلى تعزيز التطورات التكنولوجية وتدعيم كفاءة استخدام المياه في أغراض الري على إمكانات هائلة. ونظراً لتصنيفها ضمن المناطق التي تعاني من ندرة الموارد المائية، يمكن أن تؤثر التحسينات الحادثة في الممارسات الزراعية بشكل إيجابي على مجالات أخرى أيضاً.
وفي الختام، يمكن يؤدي تحرير أسواق العمل وإزالة القيود عنها إلى تعزيز كفاءة توزيع العمالة وتدعيم فرص الاستثمار. وتُفيد الخبرات المستمدة من مناطق أخرى إلى إمكانية مساهمة هذا الإجراء في تحسين إعادة توزيع العمالة من الأنشطة الزراعية ذات القيمة المنخفضة إلى قطاعات تتصف بالمزيد من الانتاجية، من قبيل قطاع تجهيز المنتجات الزراعية، وقطاع الصناعة، وقطاع الخدمات. وبالإضافة إلى ما سبق، يمكن أن يُشكل مثل هذا التحرير جزءاً لا يتجزأ من الجهود الرامية إلى إبرام اتفاقات تجارية بغرض الاستمرار في تحفيز التنمية الزراعية.
قراءات إضافية:”نين برات”، و”اليخاندرو”، و”هدى الانبابي”، و”خوسيه لويس فيغيروا”، و”هاجر الديدي”، و”كليمنس بريزينجر”. “الزراعة والتحول الاقتصادي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”. “سلسلة تقارير السياسات الغذائية” الصادرة عن “المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية”. مُرتقب. “المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية”. واشنطن العاصمة.