إعداد:- أمل قنديل، باحث غير مقيم، معهد الشرق الأوسط
April 5, 2018
ينتشر نقص المغذيات الدقيقة ولاسيما أنيميا نقص الحديد (فقر الدم الناجم عن نقص عنصر الحديد) في مصر. وينصب تركيز الاستراتيجية التي تعتمدها الحكومة المصرية في سبيل خفض معدل الإصابة بأنيميا نقص الحديد والتخفيف من التأثيرات الناجمة عنها عن طريق إجراء حزمة من التدخلات على مستوى المستهلك. ونظراً لتسارع وتيرة النمو السكاني وارتفاع معدل ندرة الموارد المائية، يتسنى لمثل هذه الاستراتيجية، والتي تنطوي على تدابير استباقية يتم اتخاذها خلال المراحل الأولية، تعزيز آلية استجابة السياسة العامة ودعم أهداف الصحة العامة ذات الصلة بها.
يتسبب النمو السكاني في تفاقم التأثير الناجم عن محدودية الأراضي الزراعية وندرة الموارد المائية في مصر. وبالإضافة إلى ما سبق، أدت الإصلاحات الاقتصادية التي شهدتها البلاد في الآونة الأخيرة، ولاسيما تعويم سعر صرف العملة المحلية (في نوفمبر/ تشرين الثاني عام ٢٠١٦)، وتقليص معدل دعم الطاقة، إلى تصاعد حاد في أسعار المواد الغذائية على مستوى الأسواق المحلية. ويتسبب قصور كفاءة الأسواق في استفحال هذا التضخم، والذي سجل خلال شهر ديسمبر/ كانون الأول معدل يثير الدهشة بما يرقى إلى ٢٢٪. وتنحسر بشكل تدريجي قابلية تحمل التكاليف المرتبطة بالأطعمة ذات القيمة الغذائية وذلك لدى قطاع واسع في مصر.
يمكن أن يؤدي تدني نوعية النظم الغذائية إلى نقص عنصر الحديد، وهو بمثابة سبب شائع وراء الإصابة بأنيميا نقص الحديد، الأمر الذي قد يفضي إلى تقويض النمو الإدراكي وتراجع التطور المعرفي لدى الأطفال، فضلاً عن اختلال الأداء العقلي والبدني في مختلف المراحل العمرية. وتشكل اللحوم مصدراً هاماً للحصول على المغذيات الدقيقة، ولاسيما "الحديد الهيمي" الذي يتميز بسهولة الامتصاص ويتصف بارتفاع مستوى التوافر البيولوجي مقارنة بالحديد اللاهيمي. وقد تصاعدت أسعار اللحوم مع ارتفاع معدل التضخم العام منذ نوفمبر/ كانون الثاني عام ٢٠١٦. وتقتصر حاجة الانسان إلى استهلاك الحوم على كميات ضئيلة بما يكفل التمتع بنظام غذائي صحي، ولكن تظل هذه الكميات الضئيلة بمنأى عن متناول الفئات الفقيرة وتفوق طاقتها.
وتثير قضية أنيميا نقص الحديد الاهتمام البالغ في قطاع الصحة العامة في مصر بالعلاقة بفئات الأطفال والنشء في مرحلة المراهقة والنساء. ويمثل الفقر العائق الرئيسي الذي يحول دون تحقيق الأمن الغذائي والتغذوي في مصر، حيث يُعزى انعدام الأمن الغذائي في المقام الأول إلى مسألة قصور الإتاحة. وفي عام ٢٠١١، اعتمدت نسبة تقدر بنحو ٣٥٪ من السكان على نظم غذائية تفتقر إلى المغذيات الدقيقة، بينما حصلت نسبة ٥,٦٪ فقط من السكان على ٤٠٪ من كمية السعرات الحرارية التي تستهلكها من اللحوم. ويعزى ارتفاع معدل انعدام الأمن الغذائي وتدني نوعية النظم الغذائية في غضون الفترة بين عام ٢٠٠٩ وعام ٢٠١١ إلى تنامي الفقر والذي تسبب في اختلال نمط استهلاك الأطعمة الغنية بالمغذيات الدقيقة، بما في ذلك اللحوم. وتشير التوقعات إلى تعرض هذا الوضع لمزيد من التدهور منذ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٦.
وفي عام ٢٠٠٨، أطلقت الحكومة المصرية برنامج غذائي تكميلي بعنصر الحديد وحمض الفوليك والذي استهدف دقيق القمح المُستخدم في انتاج الخبز "البلدي" الخاضع لمنظومة الدعم والذي يخضع للاستهلاك من قبل ٧٦٪ من السكان. وعلى الرغم من ذلك، لايزال هناك احتياج إلى إجراء تقيم متابعة لاحق من أجل الوقوف على مدى انحسار معدل الإصابة بأنيميا نقص الحديد.
وعلى الرغم من المزايا التي تتسم بها البرامج الغذائية التكميلية، يتمثل السبيل الأمثل نحو تحسين معدل استهلاك الحديد في مواصلة اتباع نظم غذائية تزخر بعنصر الحديد. وفي إطار إصلاح برنامج الدعم الغذائي على المستوى الوطني الذي انطلق عام ٢٠١٤، حرصت الحكومة المصرية على توسيع قائمة المواد الغذائية المدعومة والتي يتسنى للفئات المستفيدة من منظومة الدعم شرائها من منافذ حكومية مخصصة لهذا الغرض. وعوضاً عن الاكتفاء بثلاث مواد غذائية (وهي على وجه التحديد الزيت النباتي، والأرز، والسكر) والتي سبق إتاحتها فيما مضى في ظل المنظومة القديمة، تم توفير قائمة تحتوي على ثلاثة وثلاثين مادة غذائية، بما في ذلك الأسماك واللحوم المجمدة. وعلى الرغم من أن القرارات المتعلقة بشراء المنتجات المدعومة يتم اتخاذها من قبل الأسر المعيشية، فإن الخصومات المقررة على منتجات اللحوم بموجب ذلك البرنامج، مقارنة بأسعار السوق، من شأنها تمكين الفئات المستفيدة من منظومة الدعم من استهلاك المزيد من تلك المواد الغذائية وتحفيزها على الإقبال عليها.
يتوقف مدى توافر منتجات اللحوم، وتعتمد إمكانية تيسير تكلفتها ، ضمن جملة عوامل أخرى، على إنتاجية قطاع الثروة الحيوانية. ولا تقتصر أهمية تحسين هذه الإنتاجية فحسب على زيادة معدل توافر اللحوم وتيسير تكلفة إتاحتها لصالح جميع الفئات السكانية في مصر، وإنما تشمل أيضاً التجاوب مع تقلب أسعار أسواق السلع على الصعيد العالمي، وندرة الموارد المائية، وظاهرة تغير المناخ. وبدون إدخال تعديلات ملائمة، يمكن أن تتسبب هذه العوامل في استمرار تقليص نطاق توافر اللحوم وتقويض إمكانية تيسير تكلفتها بما يؤثر على جميع الفئات السكانية في مصر. ويتمثل أحد المجالات التي يصح البحث فيها عن تدابير تصحيحية، ومن ثم التجاوب مع المشكلات في البداية، في قطاع الثروة الحيوانية على مستوى البلاد
تحتل مصر الصدارة من حيث استيراد الذرة في العالم، والتي يتم استهلاكها على نطاق واسع في أغراض انتاج العلف لتغذية الماشية. وفي عام ٢٠١٧، عمدت مصر إلى استيراد ما يناهز ضعف كمية واردتها من الذرة في عام ٢٠٠٠، وبما يتجاوز نسبة ٢٠٪ من معدل انتاجها لمحصول الذرة على المستوى المحلي في عام ٢٠١٧. وتسبب تخفيض قيمة عملة الجنية المصري في تضاعف تكاليف الذرة كما أدى إلى تباطؤ وتيرة الواردات. ويمكن أن تؤدي الصعوبات المالية الناجمة عن تعذر تدبير تكاليف الانتاج إلى إزاحة العديد من العمليات صغيرة الحجم والمرتبطة بتربية الماشية خارج نطاق السوق بما يتسبب في تزايد الضغوط التي تخضع لها أسعار اللحوم، وإلى إقصاء فئات المستهلكين من ذوي الدخل المنخفض.
يمكن أن تسفر التدابير الاستباقية التي يتم اتخاذها خلال المراحل الأولية بغرض تدعيم الاستدامة المالية لعمليات تربية الماشية عن العديد من الفوائد المباشرة وغير المباشرة في مجال الأمن الغذائي والتغذوي. ويمكن أن تنطوي هذه التدابير، على سبيل المثال، على النهوض بمعدل إنتاجية الموارد المائية الزراعية والحد من فاقد الأعلاف المحلية.
يتسع المجال أمام إمكانية إدخال تحسينات تكفل تعزيز كفاءة قطاع الري في مصر. وتسهم البرامج الرامية إلى تمكين مزارعي محصول الذرة من التحول نحو اعتماد أساليب ري تتصف بارتفاع الكفاءة أو استخدام أصناف ذرة مستنبتة تتميز بانخفاض احتياجاتها من المياه، والتي من شأنها تعزيز الإنتاجية الزراعية ودعم عائدات محصول الذرة. وبالإضافة إلى ما تقدم، يرتفع معدل الفاقد من محصول الذرة خلال مرحلة ما بعد الحصاد، وهو ما يُعزى في المعتاد إلى الإصابة بالآفات والتعرض للرطوبة في ظروف تخزين غير مواتية. وفي عام ٢٠١٣، بلغ الفاقد ما يعادل ٢٠٪ من واردات الذرة و١٥٪ من الإنتاج المحلي. ومن الجدير أن الاستثمار في تهيئة مرافق تخزين موثوق بها وفي الحفاظ عليها من شأنه خفض الاحتياجات من الواردات بمعدلات جديرة بالاعتبار، والحد من تكاليف الأعلاف، وتعزيز الإنتاج المحلي من الثروة الحيوانية بدون فرض ضغوط إضافية على الأراضي والموارد المائية.
وبينما قد تبدو التدخلات الاستباقية التي يتم اتخاذها خلال المراحل الأولية والتي تهدف إلى تعزيز جدوى قطاع الثروة الحيوانية بمثابة هدف بعيد المرمى في إطار السعي إلى التصدي لمسألة أنيميا نقص الحديد، تُسهم هذه التدابير بشكل جزئي في مواجهة التداعيات اللاحقة السلبية التي تترتب خلال المراحل النهائية والتي تنجم عن تضخم تكاليف الإنتاج وتؤثر على مستوى الأمن الغذائي وتتسبب في الافتقار إلى المغذيات الدقيقة وفي نقص الحديد. وتتسق هذه التدابير مع ضرورة التكيف مع تفاقم ندرة الموارد المائية وتعاظم التحديات التي يتعرض لها قطاع الصحة العامة في مصر.