February 11, 2019
ستيوارت جيليسبي، كبير باحثين، المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية
تم ترجمة هذه المدونة من اللغة الانجليزية إلى اللغة العربية، وهذا رابط المدونة الأصلية باللغة الانجليزية.ة
يطرح تقرير جديد صادر عن "لجنة لانسيت المعنية بالتلاحم الوبائي العالمي بين السمنة ونقص التغذية والتغير المناخي" تحليل ثاقب وفعال يتناول القوى الدافعة وراء تداخل هذه المشكلات على الصعيد العالمي، كما يقدم مجموعة من التوصيات الحادة والتي طال أمدها. وتتمثل نقطة الانطلاق في الإقرار بسوء التغذية في المقام الأول باعتباره أبرز سبب وراء اعتلال الصحة على الصعيد العالمي، وهو ما يُعزى إلى اجتيازنا في خضم تلاحم وبائي عالمي.ة
وعلى الرغم من ذلك، ما المقصود بمصطلح تلاحم وبائي؟
تُعد السمنة، ونقص التغذية، والتغير المناخي بمثابة تحديات عالمية هائلة ومتباينة. وعلى الرغم من ذلك، تتداخل هذه التحديات من حيث الزمان والمكان، وتتفاعل مع بعضها البعض، كما تتقاسم دوافع أساسية مشتركة. وفي مجموعها، تشكل هذه التحديات تلاحم وبائي (تم صياغة مصطلح "تلاحم الأوبئة" في بداية الأمر للتعبير عن هذا المفهوم)، علماً بأنه قد جرى تطبيق هذا المصطلح لأول مرة على التفاعلات القائمة بين موجات أمراض متفشية مختلفة. وفي هذا السياق، عمدت لجنة لانسيت إلى توسيع نطاق هذا المصطلح.ة
ولقد تعذر حتى الوقت الراهن إيجاد علاج لهذا التلاحم الوبائي على وجه التحديد. ويُعزى تباين مستوى التقدم المُحرز حتى الوقت الراهن إلى جمود السياسات العامة والافتقار إلى حلول فعالة، وهو ما ينجم عن قصور القيادة السياسية وعدم ملائمة هياكل الإدارة الرشيدة؛ واحتدام المعارضة الموجهة ضد السياسات العامة جراء المصالح التجارية الحادة؛ وغياب الطلب على إجراءات فعالة في مجال السياسات العامة من قبل جمهور العامة.ة
وتُعد منظومة الأغذية الزراعية بمثابة عامل مساهم رئيسي وراء نشوء ظاهرة التلاحم الوبائي. وفي الوقت الراهن، تحرص هذه المنظومة على توجيه الأولوية نحو انتاج المواد الغذائية الأساسية المتخمة بالطاقة، مع إيلاء اهتمام محدود بشكل نسبي تجاه المواد الغذائية الغنية بالعناصر المغذية، بما في ذلك على سبيل المثال الفاكهة والخضروات. وكنتيجة لذلك، تنطوي الأنظمة الغذائية الصحية في المعتاد على تكاليف باهظة أو قد يتعذر إتاحتها وتوفيرها، بينما يتم إغراق الأسواق بالمواد الغذائية متراكبة التصنيع (بما في ذلك على سبيل المثال المكرونة، ورقائق البطاطس). وبالإضافة إلى ما سبق، تستأثر المنظومة الغذائية بما يقرب من ثلث كافة انبعاثات الغازات الدفيئة الاصطناعية والناجمة عن النشاط البشري، كما تتسبب في إطار هذه العملية في تعجيل وتيرة إزالة الغابات، وتدهور نوعية التربة، وفقدان التنوع البيولوجي بمعدل فادح وعلى نطاق واسع.ة
وتحرص اللجنة بشكل خاص على تسليط الضوء على القطاع الخاص، والذي يجدر به الاضطلاع بدور رئيسي في أية حزمة شاملة من آليات الاستجابة. وعلى الرغم من ذلك، يتطلب هذا التوجه إجراء بعض الإصلاحات الهامة. وعلى الرغم من تراوح الغالبية العظمى من شركات المواد الغذائية بين الحجم الصغير والحجم المتوسط، تنطلق الشركات الغذائية كبيرة الحجم (شركات "الأطعمة الضخمة") بشكل صريح من واجب ائتماني يدفعها لإعطاء الأولوية إلى تحقيق عائدات مالية لصالح المستثمرين. وتنطوي عملية التصنيع المتراكب على إضافة خطوات إلى سلسلة القيمة، وهو ما يؤدي إلى تعزيز هوامش الربح. ومن هذا المنطلق، ترتهن إمكانية تحقيق عائدات قصوى بالمنتجات متراكبة التصنيع، والتي يجري انتاجها على نطاقات واسعة ويتم تسويقها على الصعيد العالمي.ة
وبالإضافة إلى ما سبق، تعمد كبرى شركات الأغذية إلى توظيف استراتيجيات متعددة بهدف عرقلة الجهود الرامية إلى الوقاية من السمنة، وذلك وفقاً لما ورد في التقرير – بما في ذلك "اعتماد استراتيجية التنظيم الذاتي" [على سبيل المثال الضوابط الطوعية] في سبيل استباق إصدار لوائح تنظيمية من جانب الدولة، وإقامة علاقات عامة بهدف تصوير الصناعات باعتبارها تتمتع بحس المسؤولية الاجتماعية، وتقويض الشواهد العلمية والطعن في صحتها، وممارسة الضغوط على صانعي القرارات على مستوى الجهات الحكومية المعنية، وبلورة قضية التغذية باعتبارها مسألة خاضعة للمسؤولية الفردية.ة
ولم تصلح المنهجية – منهجية التنظيم الذاتي – التي تعتمدها كبرى شركات الأغذية لإيجاد حلول لقضية السمنة. وتفتقر هذه المنهجية إلى مفعول القانون وإلى آلية المساءلة العامة، كما تحتفظ بأسلوب تسيير العمل المعتاد وعلى النحو المعهود؛ أي، التعايش بين النجاح التجاري (شركات تنعم بالثراء) من جهة وإخفاق السوق (التعرض لنتائج سلبية على الصعيدين الصحي والبيئي) من جهة أخرى.ة
ويتضح بشكل جلي الاحتياج إلى اعتماد نموذج تجاري جديد يصب في مصلحة البشر ويعود بالنفع على كوكب الأرض، جنباً إلى جنب مع تحقيق الربح. وفي سبيل تعزيز سواعد الأمم ضد النفوذ الهائل الذي تتمتع به شركات الأغذية العابرة للأوطان، وسعياً إلى ضمان اتخاذ إجراءات شاملة من أجل التصدي لظاهرة التلاحم الوبائي العالمي، تدعو لجنة لانسيت إلى اعتماد اتفاقية إطارية معنية بالأنظمة الغذائية– والتي تُعد بمثابة معاهدة عالمية بشأن تعزيز النظم الغذائية الصحية واستدامة الإنتاج الغذائي.ة
وعلى الرغم من ذلك، ينجم الجمود السياسي عن أسباب أخرى علاوة على ما سبق. وتنادي اللجنة بضرورة اضطلاع مؤسسات المجتمع المدني والحركات الاجتماعية الشعبية بدور رئيسي في حشد الضغط السياسي وتعزيز الإقبال على استهلاك أنظمة غذائية صحية من الألف إلى الياء. وبالإضافة إلى ما سبق، يمكن أن تنهض الأطراف المعنية الرئيسية بدور واسع النطاق فيما يتعلق برصد ومعايرة معدل التقدم المُحرز نحو تلبية الأهداف الموضوعة، وتعزيز آليات المساءلة على مستوى الجهات الحكومية والشركات التجارية على حد سواء.ة
وبالإضافة إلى ما سبق، تقتضي الضرورة تحسين آليات الرصد والبحث في سبيل التصدي للدور الذي تضطلع به المنظومة الغذائية بالعلاقة بظاهرة التلاحم الوبائي المُشار إليها. وتتوافر بالفعل بنية تحتية هائلة، على الرغم من الاحتياج إلى تعزيزها وتدعيمها. ويُشير التقرير إلى "الشبكة الدولية المعنية بالبحث والرصد والتقييم في مجالي التغذية والسمنة" باعتبارها مثال ساطع في سياق تقييم ورصد البيئات الغذائية، بالإضافة إلى "قاعدة بيانات التغذية السليمة" المعنية بسياسات التغذية والتابعة "للصندوق العالمي لأبحاث السرطان".ة
ويتمثل عنصر رئيسي آخر في التمويل. ويثير الوضع الشعور بالصدمة إذ نشهد على الصعيد العالمي انحصار المساعدات المتعلقة بقطاع الصحة، والتي يتم توجيهها نحو الوقاية من الأمراض غير المعدية ومكافحتها، بما في ذلك على سبيل المثال مرض السكري، في نسبة اثنين في المائة فقط من إجمالي المساعدات، على الرغم من تحملها المسؤولية تجاه ثلثي الوفيات الحادثة في البلدان التي تنتمي إلى فئتي الدخل المنخفض والمتوسط. وتوصي اللجنة المؤسسات الخيرية وغيرها من جهات التمويل التبرع بمبلغ ١ مليار دولار في سبيل دعم تحالفات المجتمع المدني (من قبيل تلك المؤسسات التي دفعت في اتجاه فرض ضريبة فعالة على المشروبات الغازية المتخمة بالمواد السكرية في المكسيك) في سبيل المطالبة باتخاذ إجراءات ملائمة في مجال السياسات العامة.ة
وبالإضافة إلى ما سبق، نحن في احتياج إلى إجراء المزيد من البحوث في مجابهة المشكلات الفريدة التي يطرحها هذا التلاحم الوبائي. ويبرز التقرير ثلاثة مجالات على النحو التالي: تطبيق علوم المنظومات على ظاهرة التلاحم الوبائي؛ وإجراء بحوث تتناول الديناميكيات الاجتماعية والثقافية التي تؤدي إلى تدعيم أو تثبيط القدرة على اتخاذ إجراءات فعالة؛ وإجراء بحوث في مجال السياسات العامة بهدف التعرف على أبعاد الجمود السائد وغياب الزخم في الوقت الراهن. ويمكن أن تُسهم المبادرة الجديدة المعنية برصد قصص التحدي في قطاع الزراعة لدعم التغذية والصحة – والتي تهدف إلى استكشاف طُرق التعامل مع المشكلات القائمة في النظم الغذائية على أرضع الواقع – في التجاوب مع الدعوة التي أطلقتها اللجنة لحصر المزيد من الأمثلة والنماذج الإيجابية في هذا الصدد. ويتم التأكيد على أهمية القصص باعتبارها مكون رئيسي في ترسانة الدفاع، كما ينطوي التقرير على العديد من وجهات النظر الواردة من مختلف الجهات الفاعلة والمشاركة في الهيئات واللجان التابعة لها.ة
ويخلص التقرير إلى المبادئ التي يتسنى الاحتكام إليها من أجل تعظيم التأثير، على النحو التالي: التفكير من منظور التلاحم الوبائي، والدمج بين الفكر والفعل، وتعزيز آليات الإدارة الرشيدة (على الأصعدة العالمية، والوطنية، والمحلية)، وتدعيم تفاعل المجتمع المدني في هذا السياق، والحد من النفوذ التجاري في مجال السياسات العامة، وتعزيز آليات المساءلة، وتوجيه البحوث نحو رصد القوى الدافعة وتحديد الإجراءات الفعالة الواجب اتخاذها، وبناء نماذج تجارية تتوافق مع القرن الحادي والعشرين. وبحكم طبيعته، ينجم عن التلاحم الوبائي تأثيرات تتصف بالتعقيد والتركيب وتتسم بقدرتها على مقاومة الحلول الاعتيادية؛ علماً بأن هذا التقرير يوفر خارطة الطريق نحو التصدي لهذا التحدي.ة
تم نشر هذه المدونة بشكل تبادلي مع مدونة "المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية" ة