١٤ مارس ٢٠٢٢
كيبروم أباي، ولينا عبد الفتاح، وكليمنس بريسينجر، وجوزيف جلوبر، وديفيد لابورد
يُعرض الغزو الروسي لأوكرانيا الأمن الغذائي العالمي للخطر، حيث تسبب في معاناة حقيقية داخل أوكرانيا أدت إلى تشريد الملايين، بالإضافة إلى تعطيل الإنتاج الزراعي وحركة التجارة من إحدى مناطق التصدير الكبرى في العالم، ونتيجةً لذلك سيعاني العالم من شح المواد الغذائية ودفع أسعارها المتزايدة للارتفاع ، خاصةً في المناطق الأكثر اعتمادًا على الصادرات الروسية والأوكرانية - ولا سيما بُلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.ه
سنناقش في هذا المنشور آثار الحرب على سوق القمح، مع التركيز تحديدًا على مصر، كونها تعتمد على القمح كعنصر غذائي رئيسي، حيث يمثل ما بين ٣٥٪ إلى ٣٩٪ من السعرات الحرارية التي يتناولها الفرد خلال السنوات القليلة الماضية. وتمثل واردات القمح في الأغلب ما يقرب من ٦٢٪ من إجمالي استهلاك القمح في البلاد. ونختتم المنشور بعدد من الإجراءات الرئيسية المتعلقة بالسياسات والتي تهدف إلى تنويع الواردات على المدى القصير، ومساعدة تحول نظام الأغذية الزراعية في مصر ليصبح أكثر عدالة وقدرة على الصمود. ويُعتبر تعزيز القدرة على الصمود ضرورة مطلقة في ظل التهديدات الوشيكة الناجمة عن تغير المناخ وندرة المياه.ه
تأثر مصر نتيجة عرقلة الواردات القادمة إليها عبر البحر الأسود
مصر هي أكبر دولة مستوردة للقمح في العالم، حيث يبلغ حجم واردتها ١٢ إلى ١٣ مليون طن سنويًا. ويزداد اعتماد البلاد على الواردات حتى تتمكن من تلبية الاحتياجات الغذائية للمصريين البالغ عددهم ١٠٥ ملايين نسمة، يتزايدون بمعدل ١٫٩٪ سنويًا. وشهدت واردات محاصيل الغلال زيادة مطردة على مدى العقود الثلاثة الماضية بمعدل تجاوز الإنتاج المحلي (الرسم التوضيحي رقم ١).ه
الرسم التوضيحي رقم (١)
تُسيطر الهيئات الحكومية إلى حدٍ كبيرٍ على سوق القمح ونظام التجارة في مصر، فنجد أن الهيئة العامة للسلع التموينية، التي تعمل تحت إشراف وزارة التموين والتجارة الداخلية، هي المسؤولة عن شراء القمح المحلي والمستورد، حيث تُطرح مناقصات القمح العالمية كل بضعة أسابيع، وعادةً ما تتعامل الهيئة العامة للسلع التموينية مع حوالي نصف إجمالي القمح المستورد، بينما تتعامل الشركات التجارية الخاصة مع النصف الآخر.ه
ورغم الجهود التي تبذلها الدولة منذ أزمة الغذاء التي ضربت العالم عام ٢٠٠٧/٢٠٠٨ من أجل تنويع مناشئ استيرادها من الغلال، تظل كلُ من روسيا وأكرانيا أكبر مصدري الغالبية العظمى من واردات الغلال إلى مصر (الرسم التوضيحي رقم ١).ه
وتصل واردات مصر من القمح ذروتها في هذا الوقت، أي الربع الأول من العام، قبل بدء حصاد المحصول المحلي في شهر أبريل (الرسم التوضيحي رقم ٢). وينشط المصدرون عبر البحر الأسود أيضًا بشكلٍ خاص في هذا الوقت من العام، مما يجعل الأزمة الحالية مصدر اضطراب لمصر تحديدًا.ه
الرسم التوضيحي رقم (٢)
تشعر الهيئة العامة للسلع التموينية بالفعل بأثر الحرب، التي أدت إلى إلغاء المناقصات مؤخرًا بسبب نقص العروض، وتحديدًا المقدمة من أوكرانيا وروسيا. ومع ذلك، ليست هناك مخاوف من نقص القمح في الأسابيع المقبلة حيث قال وزير التموين المصري علي المصيلحي، في تصريح له في بداية شهر فبراير، أن مصر لديها احتياطي استراتيجي آمن من مخزون القمح يكفي لتغطية خمسة أشهر من الاستهلاك المحلي، لكن التوقعات بعد ذلك أقل وضوحًا. ومع الإغلاق المفاجئ لموانئ أوكرانيا و عرقلة حركة التجارة البحرية الحالية في البحر الأسود، سيتعين على مصر البحث عن موردين جدد، إذا لم تتمكن أوكرانيا من تصدير القمح هذا العام، وإذا أسفرت العقوبات المفروضة على روسيا عن عرقلة تجارة المواد الغذائية بشكلٍ غير مباشر.ه
إلا أن - لسوء الحظ - الفرص المتاحة أمام مصر محدودة. حاليًا، يتوافر لدى منتجي القمح في أمريكا الجنوبية – وتحديدًا الأرجنتين، فوائض أكبر من المعتاد من آخر حصاد مُتاح للتصدير. وبشكل عام، سيكون من الصعب زيادة الكميات المعروضة من القمح على مستوى العالم على المدى القصير، حيث يُزرع حوالي ٩٥٪ من القمح المنتج في الاتحاد الأوروبي وحوالي ٨٥% في الولايات المتحدة في فصل الخريف، مما يترك مجالًا ضئيلًا لتلك المناطق لزيادة الإنتاج على المدى القريب.ه
علاوةً على ذلك، يتنافس القمح مع محاصيل أخرى كالذرة وفول الصويا وبذور اللفت والقطن، والتي شهدت ارتفاعًا قياسيًا في الأسعار، وقد أسفر ذلك بالاقتران مع ارتفاع الأسعار القياسية للأسمدة (التي تفاقمت أيضًا بسبب الصراع الروسي الأوكراني)، إلى تفضيل المزارعين في بعض المناطق مثل الولايات المتحدة للمحاصيل الأقل كثافة في استخدام الأسمدة مثل فول الصويا.ه
منشأ حوالي ٢٠٪ من صادرات القمح العالمية هو نصف الكرة الجنوبي (الأرجنتين وأستراليا في المقام الأول)، وعادةً ما يتم شحن تلك الصادرات في أواخر الخريف وأوائل الشتاء. بالإضافة إلى ذلك، تُعد كندا وكازاخستان من كبار المنتجين الذين يحصدون في الخريف، وقد تكون صادراتهم قادرة على تعويض الكثير من العجز الناجم عن الخسائر في إنتاج أوكرانيا خلال العام المقبل وما بعده - ولكن بتكلفة أعلى بسبب طرق الشحن الأطول، وتكاليف النقل المتزايدة الناجمة عن ارتفاع أسعار النفط.ه
ارتفاع الأسعار: من السوق العالمية إلى الأسر المصرية
سجلت أسعار القمح العالمية المرتفعة أعلى مستوى لها في ١٠ سنوات، حيث وصل سعر الطن الواحد إلى ٥٢٣ دولارًا أمريكيًا في ٧ مارس (الرسم التوضيحي رقم ٣)، ويُشكل ذلك مشكلة خطيرة لموازنة الحكومة المصرية وتهديدًا محتملاً للقوة الشرائية للمستهلكين. وقد بدأت المشكلات تظهر في أسواق القمح العالمية منذ منتصف عام ٢٠٢١، أي قبل الحرب، ثم أدى الغزو إلى زيادة العقود الآجلة للقمح بنسبة تجاوزت النصف.ه
الرسم التوضيحي رقم (٣)
وبالفعل فرضت بعض البلدان قيودًا على الصادرات استجابةً لارتفاع الأسعار، وكان ذلك هو نفس النهج الذي اتبعته بلدان عدة عند ارتفاع أسعار المواد الغذائية في عامي ٢٠٠٧/٢٠٠٨ و٢٠١٠/٢٠١١ (باستثناء النظام الروسي للضرائب على الصادرات المعمول به في عام ٢٠٢١). وفرضت مولدوفا وصربيا والمجر حظرًا على تصدير بعض الحبوب، وشددت إندونيسيا ضوابطها على شحن الغلال. ومن المرجح أن تضيف هذه الاتجاهات، إلى جانب الاضطرابات في صادرات روسيا وأوكرانيا، المزيد من الضغوط التي ستؤدي إلى ارتفاع الأسعار في المستقبل. حتى في ظل أكثر الافتراضات تفاؤلاً، ستظل أسعار القمح العالمية مرتفعة طوال عام ٢٠٢٢ ومن المرجح أن يستمر ذلك الاتجاه حتى عام ٢٠٢٣، بالنظر إلى القيود المفروضة على توسيع الإنتاج.ه
تنفق الحكومة المصرية نحو ٣ مليارات دولار سنويًا على واردات القمح، وقد تضاعف الزيادة الأخيرة في الأسعار ذلك المبلغ تقريبًا لتصل إلى ٥٫٧ مليار دولار. ومن شأن ذلك أن يهدد منظومة دعم الخبز البلدي في مصر، التي توفر ١٥٠ رغيف خبز بلدي مدعم شهريًا لملايين المستفيدين، وتتحمل الحكومة حوالي ٩٠٪ من تكلفة الإنتاج بتكلفة سنوية تبلغ ٣٫٢٤ مليار دولار. وتحتاج هذه المنظومة إلى حوالي ٩ ملايين طن من القمح سنويًا – أي ما يقرب من نصف إجمالي استهلاك القمح في مصر وثلاثة أرباع واردات مصر من القمح.ه
حتى قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، كانت أسعار السلع الأساسية في مصر آخذة في الارتفاع، حيث بلغ معدل التضخم السنوي الإجمالي ٧٫٣٪، بينما بلغ معدل تضخم أسعار المواد الغذائية ٨٫٤٪ في يناير. وبدأت الحرب في زيادة الضغط على أسعار المواد الغذائية في مصر، ويشعر المستهلكون في الوقت نفسه بهذه الآثار، حيث قفز التضخم السنوي إلى أعلى معدلاته في ٣١ شهرًا في فبراير (٨٫٨٪)، وكان السبب الأساسي وراء ذلك هو ارتفاع أسعار المواد الغذائية (١٧٫٦٪). وفي حين أنه من المتوقع أن يتحمل المستهلكون وطأة الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية، إلا أن المزارعين في مصر يرون بعض المزايا من ارتفاع الأسعار، حيث تحدد وزارة التموين والتجارة الداخلية عادةً سعر شراء القمح من المزارعين المحليين بأسعار تضاهي أسعار السوق العالمية السائدة.ه
الخيارات المتعلقة بالسياسات لتأمين مستقبل القمح
تحتاج مصر إلى تنويع مصادر وارداتها الغذائية على المدى القصير، لذا تقوم الهيئة العامة للسلع التموينية بالبحث الحثيث في إمكانية تنفيذ ذلك الخيار، مع زيادة المشتريات المخططة من المصادر المحلية بنسبة ٣٨٪ مقارنةً بأرقام العام الماضي. ومن المتوقع أن يبلغ إجمالي الإنتاج المحلي للسنة التسويقية ٢٠٢١-٢٠٢٢ (٩) مليون طن متري، أي أعلى بنسبة ١٫١٢٪ فقط من العام السابق حيث بلغ إجمالي الإنتاج المحلي ٨٫٩ مليون طن متري. بالإضافة إلى ذلك، قررت الحكومة حظر صادرات المواد الغذائية الأساسية، بما في ذلك القمح، لمدة ثلاثة أشهر للحد من الضغط على الاحتياطي الحالي. ويمكن أن تخفف هذه الإجراءات من بعض الضغوط الملقاة على الاقتصاد المصري، ولكنها ستؤثر على الأرجح على العلاقات التجارية المصرية على المدى الطويل، بل وستنقل عبء الأزمة إلى الدول المجاورة ذات القدرة المحدودة على إدارة الأزمة، فقد تؤدي قيود التصدير، على سبيل المثال، التي تحد من تصدير المواد الغذائية من مصر إلى اليمن إلى عواقب إنسانية وخيمة في هذا البلد.ه
أما على المدى الطويل، فتحتاج مصر إلى البحث في خيارات تقليص الفجوة بين العرض المحلي والطلب. ونعرض فيما يلي بعض من الخيارات المتاحة.ه
إن تعزيز إنتاج القمح المحلي يُعد أمرًا صعبًا، حيث ينتج المزارعون المصريون بالفعل كميات كبيرة من القمح، معتمدين على كثرة المستلزمات ووفرة المياه. وعلي الرغم من أن هناك بعض الفرص لتوسيع رقعة الأراضي الصالحة للزراعة، وتحديث أنظمة الزراعة، وتحسين ممارسات إدارة المياه، ولكن ينبغي أن تركز الحكومة بالأساس على تكييف نظام الزراعة لمعالجة النقص الوشيك للمياه وتهديدات تغير المناخ وزيادة القدرة على الصمود، بدلاً من التوسع غير المستدام في الإنتاج.ه
يعد خيار الحد من المعدلات المرتفعة لاستهلاك الخبز وإهداره خيارًا مهمًا، حيث يبلغ متوسط الاستهلاك حوالي ١٤٥ كجم من القمح للفرد سنويًا - أي ضعف المتوسط العالمي، ويُمكن أن يساعد الحد من استهلاك القمح وهدر الطعام في تحقيق غرض مزدوج يتمثل في تحسين الاكتفاء الذاتي لمصر، مع علاج مشكلة سوء التغذية أيضًا، عن طريق تحويل الاستهلاك من القمح إلى مجموعة أكثر تنوعًا من المجموعات الغذائية، ولا سيما مع ارتفاع معدلات زيادة الوزن والسمنة في مصر، والتي ترتبط
بدعم المواد الغذائية وما يرتبط به من استهلاك أغذية كثيفة الطاقة.ه
كما أن تحسين كفاءة واستهداف منظومة دعم المواد الغذائية (التموين)، الذي يزود المستفيدين بالبطاقات التموينية لمختلف الأطعمة، يُعد خيارًا مبشرًا. فهذه المنظومة تستهلك نسبة كبيرة من القمح والزيوت النباتية المستوردة، ويمكن أن يؤدي إصلاحها إلى تقليل أوجه القصور في قطاع القمح، وتكلفة تشغيل المنظومة. ويمكن أن يؤدي تحسين استهداف منظومة التموين أيضًا إلى خفض الإنفاق الحكومي، نظرًا لأن الأسر غير الفقيرة تتلقى حوالي ثلثي القيمة الإجمالية لدعم المواد الغذائية، بينما تستفيد ثلاثة أرباع هذه الأسر بشكلٍ ما من المنظومة. وقد أثبتت الأبحاث التي يجريها المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية أن تحسين استهداف منظومة التموين يمكن أن يعزز رفاهية الأسر الفقيرة، و كذلك يمكن توجيه وفورات التكلفة المحققة من هذه الإصلاحات نحو تدخلات أخرى تستهدف الأمن الغذائي والتغذية.ه
وختامًا، تشكل الحرب الروسية الأوكرانية تحديًا كبيرًا أمام الأمن الغذائي العالمي وعقبات صعبة بشكلٍ خاصٍ لمصر. ونفذت الدولة إصلاحات اقتصادية كبيرة في عام ٢٠١٦، ساعدتها على إدارة جائحة كوفيد-١٩، إلى جانب مجموعة المحفزات الضخمة. والآن، وفي الوقت الذي بدأت تتعافى فيه البلاد من آثار الجائحة، وبدء المرحلة الثانية من برنامج الإصلاح الاقتصادي، إذ بها تواجه أزمة أخرى تهدد الأمن الغذائي تهديدًا خطيرة. وستعتمد الآثار قصيرة وطويلة الأجل بالطبع على كيفية تطور الحرب وتأثيرها على الصادرات من روسيا وأوكرانيا خلال الأشهر والسنوات المقبلة. وستعتمد التأثيرات على مصر أيضًا على استجابات الدول الأخرى لارتفاع الأسعار العالمية ونقص الغلال. ويُمكن لمصر التخفيف من حدة بعض هذه الآثار باتخاذ إجراءات قصيرة المدى كما هو موضح أعلاه، إلا أن كبرى الصدمات العالمية مثل الحرب الروسية الأوكرانية هي أيضًا تذكير بضرورة إجراء إصلاحات وحلول طويلة الأجل.ه
كيبروم اباى: زميل باحث ومدير برنامج مصر التابع للمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية، لينا عبد الفتاح: باحث مشارك بالمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية بمصر، كليمس بريسنجر: زميل أبحاث اول ومدير برنامج كينيا التابع للمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية، جوزيف جلوبر وديفيد لابورد: كبار زملاء البحث في قسم الأسواق والتجارة والمؤسسات بالمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية.ه
تم ترجمة هذه المدونة من اللغة الانجليزية إلى اللغة العربية، وهذا رابط المدونة باللغة الانجليزية.ه