غزو "روسيا" ضد "أوكرانيا: ما هي المرحلة التالية بالنسبة إلى "لبنان"؟
إعداد: "كليمنس بريسينجر" و"نديم خوري" و"جوزيف جلوبر" و"ديفيد لابوردي"
تسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية واضطراب الإمدادات جراء نشوب الحرب في "أوكرانيا" في إلحاق أضرار فادحة بالبلدان الواقعة في "منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، بما في ذلك على سبيل المثال "مصر" و"السودان" و"اليمن" وهو ما يُعزى بشكل جزئي إلى فرط اعتمادها على واردات حبوب القمح. وبالرغم من ذلك، يتضرر "لبنان" – الذي يجتاز بالفعل في خضم أحد أبرز الانهيارات الاقتصادية الوخيمة التي شهدها العالم منذ خمسينيات القرن التاسع عشر – بمعدل استثنائي من التأثيرات السلبية القائمة في مجال الأمن الغذائي والناجمة عن اندلاع الصراع بين "روسيا" و"أوكرانيا".
ويصف تقرير حديث صادر عن "البنك الدولي" (World Bank report) الأزمة الراهنة التي يشهدها "لبنان" باعتبارها "الإنكار الكبير" – وذلك في إشارة إلى توالي انهيار منظومة الخدمات الحكومية والمجتمع المدني وقطاع الاقتصاد.
وعلى مدى العقد الماضي، توالت الأزمات التي شهدها هذا البلد الذي يبلغ تعداد سكانه ٦,٨ مليون نسمة. ومنذ عام ٢٠١١ فصاعداً، تسببت الحرب الأهلية الدائرة في "سوريا" في تصدير ١,٥ مليون لاجئ ولاجئة عبر الحدود. واعتباراً من عام ٢٠١٩، أدى انهيار "مخطط بونزي" (Ponzi scheme) الهائل الذي نال من صميم القطاع المصرفي اللبناني إلى تراجع الليرة اللبنانية بمعدل مطرد. [1]وفي أعقاب ذلك، وقع الركود الاقتصادي الناجم عن جائحة "كوفيد – ١٩". وفي وقت لاحق، حدث الانفجار المزدوج التدميري الذي دوي في مرفأ "بيروت" في الرابع من أغسطس (آب) عام ٢٠٢٠. وفضلاً عن إرداء عدد يتجاوز ٢٠٠ قتيلاً وإصابة ٧٠٠٠ جريحاً، تسبب الانفجار في تدمير الأعمال التجارية وتحطيم البنية التحتية القائمة في المرفأ، بما في ذلك الصوامع الضخمة التي يتم تخزين القمح فيها. ونتيجة هذه الأزمات المتعددة، أفادت نسبة مقدارها ٦١٪ من الشعب في "لبنان" بتعرضها إلى تحديات في الحصول على المواد الغذائية وغيرها من الاحتياجات الأساسية الأخرى في نهاية عام ٢٠٢١، وذلك مقابل نسبة مقدارها ٤١٪ في نهاية عام ٢٠٢٠، وفق البيانات الصادرة عن "برنامج الأغذية العالمي".
وفي الوقت الراهن، تتسبب الحرب الدائرة في "أوكرانيا" بدون أدنى شك في تزايد ذلك الرقم. وفي إطار هذه المدونة، نتناول مسألة توالي الخسائر الناتجة عن الأزمة الاقتصادية التي أطبقت على "لبنان"، ونتطرق إلى التأثيرات السلبية الناجمة عن الصراع الدائر بين "روسيا" و"أوكرانيا" والتي تتسبب في تفاقم معدل انعدام الأمن الغذائي، ونُبرز بعض آليات الاستجابة المحتملة على صعيد السياسات العامة.
الأزمة الاقتصادية
يتعرض "لبنان" في الوقت الراهن إلى أزمة مالية غير مسبوقة ولا نظير لها من حيث جسامتها. وبينما شهد العام الماضي تزعزع الاستقرار الاقتصادي بمعدلٍ مروّعٍ، لم يسجل "لبنان" أي نمو اقتصادي منذ عام ٢٠١٧. وقد تراجع الناتج المحلي الإجمالي وفق سعر الصرف الثابت للدولار الأمريكي بمعدل يُنذر بالخطر ويبعث على القلق: نسبة -١,٧٪ في عام ٢٠١٨، ونسبة -٧,١٪ في عام ٢٠١٩، ونسبة -٢٢٪ في عام ٢٠٢٠. وفي ذات الوقت، أسفر تدفق أفواج غفيرة من اللاجئين واللاجئات من سوريا عن زيادة سكانية مقدارها ٣٠٪ في غضون عشر سنوات. وبناء على ذلك، تناقص نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بمعدلٍ حاد: وبعد مراعاة تعادل القوة الشرائية (purchasing power parity)، تراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من ١٦,٠٠٠ دولار أمريكي في عام ٢٠١٧ إلى ١٢,١٠٠ دولار أمريكي في عام ٢٠٢٠، بنسبة انخفاض قدرها ٢٥٪، مع طرح المزيد من التقديرات التشاؤمية عن كل من عام ٢٠٢١ وعام ٢٠٢٢. وفي هذا السياق، تفاقم معدل الفقر – حيث تُشير التقديرات إلى معاناة نسبة تتجاوز ثلاثة أرباع سكان "لبنان" من العيش تحت وطأة الفقر في نهاية عام ٢٠٢١، بما في ذلك تصنيف نسبة مقدارها الثلث دون خط الفقر المدقع.
وفي غضون ذلك، تراجعت الإيرادات الحكومية بنسبة تُقدر بنحو ٤٠٪ خلال فترة قوامها أربع سنوات على أساس سعر الصرف الثابت للدولار الأمريكي – وهو الأمر الذي يتسبب في تقويض قدرة الحكومة على التجاوب مع الأزمة فضلاً عن اضطرارها إلى الاعتماد على الدين المحلي أو الدين الخارجي بهدف اتخاذ إجراء في إطار هذا الوضع. وفي ذات الوقت، تبخّرت ثقة الجمهور تجاه السلطة النقدية على مستوى البلد، حيث يخضع محافظ "مصرف لبنان المركزي" إلى العديد من التحقيقات بسبب التورط في قضايا فساد (numerous corruption investigations).
وبفعل كافة هذه العوامل مجتمعة، تلاشت الثقة في العملة اللبنانية. وقد تدهور سعر الصرف الفعلي (effective exchange rate) بنسبة مقدارها ٩٥٪ في غضون عامين (الرجاء الاطلاع على الشكل التوضيحي رقم ١) وقفز معدل التضخم المحلي (domestic inflation) إلى عنان السماء: حيث بلغ معدل تضخم الأسعار الاستهلاكية السنوية (Annual consumer price inflation) في فبراير (شباط) عام ٢٠٢٢ نسبة ٢١٥٪. وقد قارب معدل التضخم في أسعار المواد الغذائية (Food price inflation) على ضعف ذلك الرقم: ٣٩٦٪.
[1] ترتبط الليرة اللبنانية بشكل رسمي بالدولار الأمريكي على أساس سعر ١٥٠٠ ليرة لبنانية لكل دولار أمريكي، بينما تتأرجح في الوقت الحالي على أساس سعر ٢٤٠٠٠ ليرة لبنانية لكل دولار أمريكي في السوق السوداء. وتتعدد أسعار الصرف التي تعترف بها الحكومة بصفة رسمية (https://www.bdl.gov.lb/news/more/8/564/21).
وبخلاف المنتجات الغذائية، تحولت السلع الاستهلاكية اليومية إلى سلع رفاهية كمالية، حيث تبلغ تكلفة غالون وقود الديزل نصف الحد الأدنى للأجر الشهري (٦٧٥,٠٠٠ ليرة لبنانية أو ٢٥ دولار على أساس سعر الصرف الحالي).
ويُعد انخفاض سعر الصرف (Exchange rate depreciation) بمثابة شاغل هام يثير القلق البالغ، ويتسبب في تفاقم التأثير الناجم عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية العالمية (global food prices) (+٣٤٪ في ١٢ شهراً). ويعني انهيار الليرة اللبنانية ارتفاع تكلفة الواردات الغذائية بواقع ١٨٠٪ بالعملة المحلية مقارنة بالوضع منذ عام واحد.
لماذا تُشكل الحرب الدائرة في "أوكرانيا" أهمية بالنسبة إلى الإمدادات الغذائية في "لبنان"؟
على غرار البلدان الأخرى الواقعة في "شرق البحر الأبيض المتوسط"، يعتمد "لبنان" على نطاق واسع على الواردات الغذائية الوافدة من كل من "روسيا" و"أوكرانيا". وتنشأ نسبة تتجاوز ٢٥٪ من السعرات الحرارية الإجمالية التي تستهلكها الأسرة المعيشية المتوسطة في "لبنان" من هذين البلدين، سواء عن طريق المنتجات الغذائية القائمة على القمح أو عبر زيت عباد الشمس. ويمثل القمح نسبة ٣٨٪ من السعرات الحرارية الإجمالية وتستأثر واردات القمح بنسبة ٨٠٪ من إجمالي استهلاك القمح. وخلال السنوات الأخيرة، تأتيت نسبة تتراوح بين ٧٠٪ إلى ٩٠٪ من واردات القمح إلى "لبنان" من "روسيا" و"أوكرانيا" (الرجاء الاطلاع على الشكل التوضيحي رقم ٢).
وقد ناهز متوسط واردات القمح نحو ١,٢ مليون طن متري في غضون الفترة ما بين عام ٢٠١٩ وعام ٢٠٢١ – وهو ما يشكل زيادة قدرها عشرة أضعاف واردات القمح خلال الفترة ما بين عام ١٩٩٩ وعام ٢٠٠١ (على الرغم من تراجع هذا المستوى اعتباراً من عام ٢٠١٧ جراء تردي الوضع الاقتصادي وتناقص القوى الشرائية) (الرجاء الاطلاع على الشكل التوضيحي رقم ٣). وتضاءلت سعة تخزين القمح (wheat storage capacity) في "لبنان" بمعدلٍ حاد بسبب تدمير صوامع الغلال في حادث انفجار مرفأ "بيروت" عام ٢٠٢٠. وقد جرى للتو اتخاذ قرار يقضي بهدم الصوامع المتضررة مع اتخاذ إجراءات مستقبلية تهدف إلى استرداد السعة التخزينية التي تبلغ ١٠٠ ألف طن متري بعد أن تعرضت للفقدان. وتتدنى أرصدة الغلال في "لبنان" في الوقت الحالي، بما يُقدر بنحو٣٠ إلى ٤٠ يوم فقط.
وبالإضافة إلى ما سبق، يعتمد "لبنان" على نطاق واسع على واردات زيت عباد الشمس الوافدة من "روسيا" و"أوكرانيا". ويستأثر زيت عباد الشمس بنسبة تتجاوز ثلثي الزيوت النباتية التي تستهلكها الأسر المعيشية اللبنانية.
محدودية الخيارات المتاحة أمام الحكومة اللبنانية
وعلى النقيض من بعض البلدان الأخرى الواقعة في "منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، ومنها على سبيل المثال "مصر"، حيث تنهض هيئة حكومية ("الهيئة العامة للسلع التموينية") بالمسؤولية تجاه شراء الواردات التي يتم تصنيفها باعتبارها سلع "استراتيجية" من قبيل القمح، اعتمد "لبنان" حتى وقت قريب على نظام توريد قائم على ممارسات تجارية بحتة (purely commercial practices-based procurement system)، مع تصنيف المطاحن باعتبارها أطراف فاعلة وقوى دافعة رئيسية في إطار سلسلة الإمداد. وعلى الرغم من ذلك، وسعياً إلى التجاوب مع جموح التضخم، شرعت الحكومة في شراء القمح بشكل غير منتظم وعلى أساس متقطع من أجل الحفاظ على انخفاض أسعار الخبز. وقد اتسعت رقعة هذه المشاركة المباشرة من جانب الحكومة: حيث تستأثر النفقات الحكومية بما يقدر بنحو ٩٠٪ من تكلفة القمح، بإجمالي ٣٩٠ دولار لكل طن.
ويتعذر الاستمرار في اعتماد هذه السياسة مع مرور الوقت. وقد كافح "لبنان" بالفعل في سبيل توريد القمح خلال شهر مارس بسبب الافتقار إلى موارد مالية كافية، وهو ما اضطر الحكومة إلى الانتظار ريثما يتم فتح خط ائتمان (مقابل ٢٦ مليون دولار) من قبل المصرف المركزي بهدف شراء القمح الهندي (بواقع ٥٠٠٠٠ طن، أو ما يُناهز استهلاك شهر واحد). وفي سبيل تدارك نقص النقد الأجنبي (foreign exchange shortages)، أجرت الحكومة في الآونة الأخيرة مفاوضات من أجل الحصول على قرض عاجل من البنك الدولي (World Bank emergency loan) بهدف تمويل احتياجاتها من واردات القمح على مدى فترة تقارب ستة أشهر.
وبالإضافة إلى ما سبق، يتسبب تدني سعر القمح في تشجيع ممارسات التهريب إلى الخارج. ويُفيد هذا الوضع بضرورة إحباط محاولات تهريب القمح والخبز، حيث يتنافى هذا التهريب مع الغرض من الإعانات العامة ويتسبب في إهدار الموارد المالية الحكومية التي تعاني بالفعل من محدوديتها.
وبالنظر إلى هذه المشاكل، يَتَعَيَّن على "لبنان" النظر في إمكانية اللجوء إلى اعتماد سياسة عدم التدخل (policy of non-intervention) في واردات القمح في وقت مبكر قدر الإمكان. وبينما تتأهب الحكومة لتخفيض الإعانات، يتعين عليها مراجعة مستويات الإعانة وإعادة تقييمها بما يكفل تحقيق العدالة والإنصاف ويؤدي إلى التقليل من الهدر. وعلى الأجلين المتوسط والطويل، ينبغي دعم الحكومة في بناء القدرات المؤسسية وإنشاء شبكة أمان اجتماعي شاملة. وينبغي أن ينصب أحد محاور التركيز على توفير شبكة أمان هادفة قائمة على تدخلات محددة الأغراض، بما في ذلك البرامج الحالية، بهدف دعم التكافؤ في الاستهلاك الغذائي والأمن التغذوي بما يعود بالنفع على الفقراء.
وفي ذات الوقت، تنحسر الإمدادات في نطاق ضيق. وسعياً إلى إدارة انخفاض معدل توافر القمح وتدني مستوى الأسعار، بذلت الحكومة محاولات رامية إلى ردع استخدام القمح في انتاج ما يُدعى بالسلع الكمالية الفاخرة، من قبيل "الكعك" وعجائن "الكرواسون". وبالرغم من ذلك، وخلال شهر "رمضان"، الذي انتهى في الأول من شهر مايو (أيار) – ومع اعتياد استهلاك مثل هذه الحلويات وفق العرف السائد عند تناول وجبة "الإفطار"، وهي الوجبة المسائية – لم يحظى هذا الإجراء بشعبية واسعة النطاق.
وعلاوة على هذه التحديات، ارتفع معدل تَوَقُّف عمليات الطحن في مطلع شهر أبريل (نيسان). وتمثل أحد العوامل الكامنة وراء هذا التَوَقُّف في تلف الشحنة الأخيرة التي تم استلامها من "أوكرانيا" في ديسمبر (كانون الأول) عام ٢٠٢١ بفعل عوامل الرطوبة والنداوة.
وفي سبيل التخفيف من وطأة هذه القضايا، ينظر "لبنان" أيضاً في إمكانية تجاوز البلدان التقليدية المعنية بتوريد القمح من قبيل "الهند" وغيرها من البلدان المصدرة للقمح ومنها على سبيل المثال "الولايات المتحدة" وكازاخستان". وعلى الرغم من ذلك، ربما تصطدم استراتيجية التنويع المُشار إليها ببعض العراقيل التي تحول دون تطبيقها جراء تزايد أعداد البلدان التي تلجأ إلى فرض ضوابط على صادراتها (على سبيل المثال "تركيا"، ويمكن متابعة تطور الموقف عبر "نظام تتبع الضوابط المفروضة على تصدير الأغذية والأسمدة" المعتمد من "المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية" (IFPRI’s Food and Fertilizer Export Restriction Tracker)، إلى جانب احتدام التنافس بمعدل متنامٍ على واردات القمح من قبل بعض البلدان، ومنها على سبيل المثال "مصر". ويوصي تقرير حديث صادر عن "البنك الدولي" (World Bank report) بضرورة تعزيز قدرات "وزارة الاقتصاد والتجارة" بهدف تمكينها من متابعة أسعار القمح على الصعيد الدولي وتقييم العروض التي يتم تقديمها وإجراء مفاوضات بشأن الواردات الوافدة إلى "لبنان".
وفضلاً عما سبق، يتمتع "لبنان" ببعض الإمكانات التي تكفل زيادة معدل انتاج القمح على الصعيد المحلي، ولاسيما لأغراض صُنع الخبز. ويتعين على الحكومة استكشاف سُبل دعم هذه الجهود التي يتم بذلها عن طريق إجراء البحوث واعتماد أساليب أخرى تُراعي أوضاع السوق.
وفي الختام، ومنذ وقوع الانفجار في مرفأ "بيروت"، تم تطبيق جدول استيراد القمح "الآني" (just-in-time wheat import scheduling) بهدف تلافي الإثقال على السعة التخزينية الصغيرة النطاق نسبياً داخل المطاحن. وبالإضافة إلى ذلك، تُتيح المناقشات الدائرة بشأن إعادة بناء صوامع الغلال الفرصة أمام "لبنان" من أجل إعادة النظر في سياسة التخزين التي تعتمدها. ويتعين على الحكومة سواء تقليص نطاق جهود إعادة الإعمار أو دراسة مدى جدوى تخصيص مهنة إقليمية لدعم صوامع الغلال المُعاد بنائها، نظراً لإمكانية استفادة المنطقة في مجملها من اعتماد سياسة مُتناسقة بشأن التخزين الاستراتيجي للقمح والغلال بشكل عام. ومع توفير إمدادات كافية، تتمكن المطاحن أيضاً من مواصلة انتاجها بمعدل يتجاوز نطاق الاحتياجات الوطنية أو المحلية مع إمكانية النظر في فرص التصدير إلى البلدان المجاورة.
الخاتمة
يُبرز الوضع في "لبنان" تعدد الأسباب التي تؤيد الأهمية الحاسمة الكامنة في الأوضاع الاقتصادية الكلية (macroeconomic conditions) ومساهمتها في تحديد مدى فعالية الدول في التجاوب مع الصدمات التي تتعرض لها النُظم الغذائية. لقد اجتاحت "لبنان" "عاصفة متكاملة الأركان"، حيث شهدت البلاد نشوب أزمات اقتصادية وسياسية على الصعيد المحلي، وتدفق أفواج غفيرة من اللاجئين واللاجئات، وارتفاع أسعار الأغذية والطاقة. وسعياً إلى الحيلولة دون انعدام الأمن الغذائي مستويات جائرة يتعذر تحملها والتسبب في تأجيج اضطرابات اجتماعية واسعة النطاق، ومن منطلق افتقار "لبنان" إلى موارد كافية تكفل التصدي للأزمة بشكل منهجي أو بشكل فردي، يقتضي الوضع الاعتماد على دعم إقليمي أو عالمي وإيجاد حلول جزئية ومؤقتة (ad hoc solutions). وفي سياق هذا الدعم الفوري والمباشر، يُناقش "صندوق النقد الدولي" في الوقت الراهن إمكانية إطلاق برنامج يستهدف تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي (macroeconomic stabilization program) وينظر "البنك الدولي" في إمكانية تقديم قرض لدعم استيراد القمح.
وعلى نحو يدعو إلى الأسف، لا تتصف هذه الحلول الجزئية والمؤقتة بطابع الاستدامة على المدى المتوسط أو المدى الطويل. ومع ذلك، ربما تقتضي الضرورة الالتجاء إلى هذه الحلول الجزئية والمؤقتة نظراً لمساهمتها على أقل تقدير في تمكين "لبنان" من الوفاء ببعض المواعيد النهائية العاجلة. ومن المقرر إجراء انتخابات تشريعية وانتخابات رئاسية على التوالي. ويمكن أن يتسبب اندلاع أعمال شغب جراء الأزمة الغذائية في الإخلال بهاتين الفعاليتين الانتخابيتين القادمتين على حد سواء. وسعياً إلى تلافي هذه العواقب، يقتضي الوضع اعتماد حزمة من التدابير الاستباقية الأولية، بما في ذلك على سبيل المثال ضمان توفير إمدادات القمح على مدى الأشهر القليلة القادمة، وذلك بالاقتران مع حزمة من التدابير اللاحقة، ومنها على سبيل المثال ضمان العدالة والإنصاف في توزيع الخبز (والمواد الغذائية بشكل عام) عبر التدخلات القائمة في إطار شبكة الأمان.
وتتطلَّب هذه التدخلات الفورية حشد التضامن الدولي وتوفير مساعدات مباشرة من الخارج دون السعي إلى التدخل في العملية السياسية الداخلية. وعلى الرغم من ذلك، ترتهن الحلول العميقة وطويلة الأجل بالأطراف الفاعلة الداخلية وتتطلب عزيمة سياسية. ويرى الكثيرون في "لبنان" في الفرصة القادمة الرامية إلى تجديد القيادة اللبنانية بصيص أمل بشأن إمكانية إيحاد حلول تتصف بالمزيد من الاستدامة والفعالية في سبيل التعامل مع المشاكل الاقتصادية التي يتعرض لها "لبنان". هل يمكن أن تُسهم الحلول القائمة على علاقات الشراكة بين القطاعين العام والخاص والرامية إلى معالجة إشكالية توريد القمح، والتي تفاقمت بفعل غزو "روسيا" ضد "أوكرانيا"، في توضيح المسار نحو التصدي للمشكلات القائمة في "لبنان" على المدى الطويل؟
يزاول "كليمنس بريسينجر" (Clemens Breisinger) العمل بصفته "زميل باحث أول" (Senior Research Fellow) و"مدير البرنامج القطري بكينيا" لدى "المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية". ويزاول "نديم الخوري" العمل بصفته "باحث مستقل" في مجال الأمن الغذائي والزراعة الذكية من المنظور المناخي. ويزاول "جوزيف جلوبر" (Joseph Glauber) و"ديفيد لابوردي" (David Laborde) العمل بصفة كل منهما "زميل باحث أول" (Senior Research Fellow) في إطار "قسم الأسواق والتجارة والمؤسسات" التابع إلى "المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية". وتعكس الآراء الواردة في هذه المدونة وجهات نظر المؤلفين.
تم ترجمة هذه المدونة من اللغة الانجليزية إلى اللغة العربية، وهذا رابط المدونة باللغة الانجليزية.ه