الدور الحاسم الذي يلعبه القطاع الخاص في ظل الصراع المحلي واضطرابات السوق العالمية نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية
بقلم سيكندرا كردي، وأوليفييه إيكر، وجوزيف جلوبر، وديفيد لابورد
أدى الصراع الدائر في اليمن منذ أوائل عام 2015، إلى حالة طوارئ إنسانية مستمرة لم يسبق لها مثيل. إن الاحتياجات الغذائية أعلى كثيرًا من مستويات الاستهلاك الحالية، حيث تُعاني 3.5 مليون امرأة حامل أو مرضع وطفل دون سن الخامسة من سوء التغذية الحاد، كما يعاني ما يصل إلى 19 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي في عام 2022.
وفي هذه الأثناء، وتحديدًا منذ فبراير/ شباط، أدت الحرب بين روسيا وأوكرانيا إلى عرقلة الإمدادات العالمية من الحبوب وغيرها من المنتجات الزراعية الرئيسية، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار العالمية للمواد الغذائية. يعتمد اليمن بكثافة على واردات الحبوب لإطعام السكان المهددين منذ فترة طويلة بخطر الوقوع في براثن المجاعة، وكي تتمكن البلاد من إدارة الأمن الغذائي، عليها ضمان تدفق القمح إلى البلاد، ووصول منتجات القمح إلى المستهلكين عبر جهات استيراد القمح ومعالجته وتوزيعه في القطاع الخاص.
فرض الصراع الدائر واضطرابات السوق العالمية ضغوطًا غير عادية على القطاع الخاص في اليمن. وفي الوقت الذي تراجعت فيه الجهود الإنسانية لمعالجة الأزمة، أصبح لمستوردي الأغذية والجهات الفاعلة الأخرى في القطاع الخاص – كونهم ركنًا رئيسًا لاقتصاد الغذاء في البلاد – دورًا محوريًا في المهمة العاجلة المتمثلة في منع زيادة وتفاقم انعدام الأمن الغذائي. لذا، نناقش في هذا المنشور الظروف الحالية التي يمر بها القطاع الخاص في اليمن، والتحديات التي تواجهه، ونقترح السبل الممكنة للمضي قدمًا في معالجة المشكلات ذات الصلة.
الواردات الغذائية في اليمن
في عام 2020، استورد اليمن 84 في المائة من السعرات الحرارية الغذائية اللازمة للاستهلاك المحلي، وأغلبها من الحبوب، ومعظمها من القمح. قبل بدء الصراع، كان اليمن يستورد حوالي 3 مليون طن متري من القمح (أو حوالي 100 كجم للفرد) سنويًا، واعتمد بالأساس على الاستيراد من أستراليا وروسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة. ونتيجة انخفاض الإنتاج الزراعي المحلي، ازداد الاعتماد على واردات الحبوب منذ ذلك الحين، رغم العقبات الإضافية التي يتعرض لها المستوردون. وبعد الانخفاض الذي صاحب بداية الصراع، وصلت واردات القمح إلى 3.4 مليون طن في عام 2020.
تصل واردات المواد الغذائية إلى اليمن حصريًا عبر القليل من شركات القطاع الخاص والوكالات الإنسانية، قامت الوكالات الإنسانية باستيراد 0.9 مليون طن، معظمها من القمح، في عام 2020، وظلت كمية هذه الواردات مرتفعة بسبب تفاقم أزمة الغذاء. ويهدف برنامج الأغذية العالمي – الذي يُعد أكبر مستورد للغذاء بين الوكالات الإنسانية حتى الآن - إلى دعم ما يقرب من 13 مليون من الأشخاص الأكثر احتياجًا (ما يقرب من نصف السكان) بالمساعدات الغذائية الطارئة في عام 2022. وفي سبيل ذلك، قام البرنامج بتوزيع ما يقرب من 26 في المائة من إجمالي واردات اليمن من القمح عام 2020.
ومع ذلك، يواجه البرنامج صعوبة في تحمل تكاليف توزيع الغذاء (المقدرة حاليًا بنحو 809 مليون دولار أمريكي للأشهر الستة المقبلة). واضطر البرنامج نتيجة قيود التمويل والزيادات العالمية في أسعار الحبوب إلى تقليل كمية المواد الغذائية الموزعة إلى 60 في المائة من الحصص القياسية من سلة الغذاء لأكثر من نصف المستفيدين في يناير/كانون الثاني 2022، ومرة أخرى في يونيو/حزيران إلى 45 – 55 في المائة من الحصص القياسية لجميع المستفيدين.
ورغم الكم الهائل من المواد الغذائية الموزعة، إلا أن القطاع الخاص يظل المسؤول الأول عن غالبية واردات القمح اليمنية. ومع تقليص المساعدات، ظهرت الحاجة الملحة إلى مراقبة قدرة القطاع الخاص على توفير المواد الغذائية إلى الأسواق اليمنية.
آثار الحرب الروسية الأوكرانية والهند تحظر تصدير القمح
في عام 2021، استوردت اليمن 44 في المائة من القمح الذي تستهلكه من روسيا (24 في المائة) وأوكرانيا (20 في المائة)، إلا ان الغزو الروسي لأوكرانيا أدى إلى وقف تلك الإمدادات، وأجبر المستوردين اليمنيين على محاولة إيجاد بدائل، وتباينت النتائج التي توصلوا إليها حتى الآن.
خلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 2022، انخفضت واردات القمح من ثلاثة من أكبر أربع دول تُصدر القمح إلى اليمن (أستراليا وأوكرانيا والولايات المتحدة) بنسبة 12 في المائة، مقارنةً بالفترة نفسها من عام 2021، ويرجع ذلك إلى حدٍ كبير إلى انخفاض حجم الصادرات من أوكرانيا (رسم توضيحي 1)، بينما توقفت روسيا، رابع أكبر دولة مصدرة للقمح حتى عام 2021، عن الإبلاغ عن بيانات التجارة في فبراير/شباط 2022، لذا لا يمكن التأكد مما إذا كانت روسيا قد صدرت بالفعل أي قمح إلى اليمن منذ بداية حربها مع أوكرانيا أم لا.
وعلى الرغم من هذا القصور، إلا أن إجمالي كميات الصادرات إلى اليمن خلال الأشهر الثمانية الأولى من عامي 2021 و2022 متشابهة، حيث عوضت زيادة الصادرات من الهند والاتحاد الأوروبي الخسائر التي شهدتها البلاد عام 2022.
رسم توضيحي 1
صادرات القمح إلى اليمن
وبالتالي، تأثر اليمن كثيرًا جراء حظر تصدير القمح من الهند في مايو/أيار 2022، بعد أن أصبحت الهند موردًا مهمًا منخفض التكلفة يُسهم بما يقرب من ثلث واردات القمح لليمن منذ بداية الصراع في أوكرانيا وحتى قرار حظر التصدير.
في حين أن مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب أتاحت بعض أعمال الشحن من الموانئ الأوكرانية والروسية، إلا أن اليمن لم يتلق سوى شحنتين من القمح فقط حتى الآن من أوكرانيا بإجمالي 67,500 طن، وجاري فحص وتفتيش شحنتين أخريين. وقبل فترة وجيزة من انتهاء اتفاق تصدير الحبوب من البحر الأسود، تم تمديد مدة الاتفاق لثلاثة أشهر أخرى في 17 نوفمبر/تشرين الثاني، وقد أتاح هذا التمديد مجالًا لنقل المزيد من شحنات القمح إلى اليمن.
تكلفة الصراع اليمني
وسط التزاحم العالمي الحالي لإيجاد ترتيبات تجارية بديلة، يواجه مستوردو المواد الغذائية في اليمن الكثير من السلبيات بسبب الصراع الدائر في البلاد. ومن المتوقع أن يؤدي انتهاء الهدنة التي دعمتها الأمم المتحدة في 2 أكتوبر/تشرين الأول، والتي بدأت منذ أبريل/نيسان، إلى إضعاف وضع التفاوض على شراء السلع المتداولة في العالم، وفرض تحديات لوجستية جديدة لتفريغ شحنات الحبوب وتوزيع منتجات الحبوب في اليمن.
إن ارتفاع التكاليف هو أحد أكبر الشواغل الناتجة مباشرةً عن الصراع اليمني، إذ يتأثر بها المستهلكون. ومنذ بدء الصراع، ارتفع سعر التأمين على الشحنات التجارية بمقدار 16 ضعفًا، ويضاف إلى ذلك التكلفة الزائدة الناتجة عن التأخير في تسليم منتجات الحبوب بسبب إجراءات التخليص والتفتيش خلال فترة الصراع في موانئ وصول الشحنات، وعلى طول طرق الإمداد، إلى جانب التكاليف الناتجة عن القيود التي تعرقل توريد المستلزمات والإجراءات المحلية. ومن الأمور التي تؤدي إلى رفع التكاليف، زيادة أسعار الوقود اللازم لتشغيل المولدات في الموانئ، ومطاحن الدقيق، والشاحنات إضافةً إلى نقص الوقود.
ويتطلب الانفصال الفعلي للبلاد إلى اليمن الشمالي واليمن الجنوبي إمداد اليمن الشمالي بالواردات عبر مينائي الحديدة والصليف على البحر الأحمر، وإمداد اليمن الجنوبي بالواردات عن طريق ميناء عدن البحري على خليج عدن. وتزداد التكاليف عند توزيع واردات الحبوب في المناطق الريفية اليمنية الوعرة، ونُلاحظ ارتفاع الأسعار في الأسواق البعيدة عن الموانئ البحرية الرئيسية، وفي المناطق النائية ذات الأوضاع الأمنية المعقدة.
تواجه الشركات المستوردة للمواد الغذائية في شمال اليمن وجنوبه صعوبات تتعلق بشراء العملات الأجنبية اللازمة للشراء من الأسواق العالمية. ولكل جزء من البلاد سياسة نقدية مختلفة عن الجزء الآخر فيما يتعلق بالعملة الوطنية – أي الريال اليمني – إذ يطبع اليمن الجنوبي أوراق نقدية حديثة لا يقبلها اليمن الشمالي. كما أن سعر الصرف الرسمي مبالغ فيه، ويجب على المستوردين التنافس والدخول في مزادات للحصول على العملات الأجنبية من البنك المركزي. ويعاني الجنوب من انخفاض قيمة العملة بشكلٍ مطرد، ثم ترتفع قيمتها بشكلٍ غير متوقع مع ارتفاع العجز الحكومي، وتضاؤل الاحتياطي وسط عمليات الإنقاذ العرضية التي تقدمها المملكة العربية السعودية (رسم توضيحي 2).
يواجه القطاع الخاص في شمال اليمن وجنوبه عقبات عند التعامل مع النظام المالي الدولي، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن العالم لا يعترف بالجزئين كإقليمين مستقلين، مع تطبيق شروط تمويل غير مناسبة في جميع المجالات. ومن التحديات الخاصة التي تواجهه المستوردين، الاحتفاظ باحتياطي أعلى كثيرًا من رأس المال العامل (بالدولار الأمريكي) لتمويل الشحنات، التي تتطلب غالبًا دفع نصف قيمة الواردات مقدمًا.
اتجاه أسعار الصرف المتوازية في شمال اليمن وجنوبه
ريال يمني / دولار أمريكي
إن الوصول إلى الائتمان هو أحد التحديات الأخرى ذات الصلة. استهدفت الولايات المتحدة أنصار الله - سلطات الأمر الواقع في اليمن الشمالي (المعروفة أيضًا باسم الحوثيين) - وأنصارهم بمختلف العقوبات المالية الدولية المدعومة بقوة من الولايات المتحدة. صنفت إدارة ترامب هذه الجماعة لفترة وجيزة بأنها منظمة إرهابية في يناير/كانون الأول 2021، إلا أن الرئيس بايدن ألغى هذا التصنيف في الشهر التالي فور توليه الرئاسة. وفي حين أن العقوبات الحالية تستهدف من الناحية النظرية قيادة أنصار الله والمتواطئين معها، إلا أن البنوك العالمية تفضل تجنب المشاركة في المعاملات المالية التي تشمل اليمن ككل.
أدت كل هذه التعقيدات إلى زيادة الضغوط على أسعار المواد الغذائية. منذ بدء الصراع، تضاعفت أسعار التجزئة المحلية لدقيق القمح مقارنةً بسعر القمح العالمي، لذا، حاولت السلطات في شمال اليمن السيطرة على ارتفاع الأسعار، ونشرت قائمة بنطاقات أسعار السلع الأساسية على فترات منتظمة. ورغم أن هذه السياسة قد تفيد المستهلكين على المدى القصير بالحد من تقلبات الأسعار، إلى حد عدم تحديث الأسعار كما ينبغي لتعكس الزيادات في التكاليف، فإن سقوف الأسعار هذه يمكن أن تسهم في نقص الغذاء بدلاً من ارتفاع أسعار التجزئة.
الحفاظ على سلاسل الإمداد الغذائي والأسواق الاستهلاكية
بينما يهيمن عدد قليل من الشركات الكبيرة على قطاع استيراد المواد الغذائية وتصنيعها، تتولى شبكة من صغار التجار وأصحاب المتاجر توزيع وبيع منتجات الحبوب بالتجزئة في اليمن. وتلعب هذه الشركات دورًا محوريًا في الاقتصاد المحلي لليمن، حيث تخلق فرص عمل تشتد الحاجة إليها في قطاع الخدمات، وتعمل كذلك كجهات إقراض للضروريات اليومية، ومن بينها المواد الغذائية. توصلت دراسة استقصائية حديثة لمقدمي المعلومات السوقية إلى أن 64٪ من بائعي المواد الغذائية يبيعون بالتقسيط لعملاء موثوق بهم في مجتمعاتهم، وتعتمد معظم الأسر الريفية بشكل كبير على الشراء بالتقسيط، إذ يسهل ذلك حصولهم على ما يحتاجونه من غذاء بينما لا يمتلكون النقد اللازم لشرائه. وتعتمد الأسر الفقيرة على الائتمان بدلاً من النقد لشراء ما يقرب من نصف مستلزماتها الغذائية الأسبوعية، بل ويمتد الطلب على الائتمان إلى سلسلة القيمة، فغالبًا ما يشتري تجار الجملة وموزعو الأغذية الآخرون بالائتمان من المستوردين والمصنعين، وبالتالي يعتمدون على المعاملات الائتمانية مع تجار التجزئة المحليين. ورغم أن الائتمان يعتبر أمرًا حيويًا للأمن الغذائي على مستوى الأسرة، إلا أنه ينطوي على صعوبات توفير السيولة في سياق يكون فيه الوصول إلى التمويل محدودًا.
سبيل المضي قدمًا
من الجوانب الضرورية في أي نهج يستهدف معالجة أزمة الغذاء الحالية في اليمن، توفير التمويل الكافي للاستجابة الإنسانية لتجنب المجاعة والحد من الجوع. ولكن نتيجة الضغوط على المساعدات الإنسانية، يتضح الدور الفعال الذي ينبغي أن ينهض به القطاع الخاص كعامل أساسي لضمان الأمن الغذائي في البلاد. ودعت مجموعة هائل سعيد أنعم – الشركة الرائدة في مجال استيراد الحبوب في اليمن، وتصنيع ومعالجة كميات القمح المستوردة - المنظمات الدولية والحكومات إلى تقديم دعم طارئ للمستوردين لتجنب المجاعة المحتملة. وتشمل المقترحات إعطاء مستوردي القمح اليمنيين أولوية الوصول إلى إمدادات القمح، وتزويدهم بشروط تمويل خاصة للاستيراد، وضمان مدفوعات الشحنات لفترة موحدة مدتها 60 يومًا.
نظرًا لأن القطاع الخاص لديه إمكانات ضمان بقاء الغذاء متاحًا في الأسواق الاستهلاكية المحلية، يمكن للمجتمع الدولي توسيع نطاق برامج المساعدات النقدية، إذ أنها تتطلب بنية تحتية أقل من برامج توزيع الأغذية، أو قسائم الطعام، وقد ثبت أنها فعالة أيضًا في ظل ظروف الصراع الدائر في اليمن.
ويلزم أن تتخذ الحكومات في شمال اليمن وجنوبه إجراءات عاجلة لوضع سياسة الاقتصاد الكلي للحد من التضخم واستعادة الثقة في العملة اليمنية.
ويواجه اليمن أخطار مستمرة تتمثل في زيادة الجوع وسوء التغذية وسط الصراع الدائر وحالة عدم اليقين الاقتصادي في العالم بأسره. وتعتبر المساعدات الغذائية المباشرة وغيرها من المساعدات الإنسانية من طرق الاستجابة للأزمة، لكن الأسر لا تزال تحصل على معظم القمح من خلال شبكات الاستيراد والتوزيع التابعة للقطاع الخاص. ويمكن للمجتمع الدولي أيضًا اتخاذ إجراءات مثل تزويد الأسر الفقيرة بالمساعدة في شكل نقود واتخاذ إجراءات ملموسة لدعم الدور الحاسم للقطاع الخاص.
سيكندرا كردي زميلة باحثة في قسم إستراتيجيات التنمية والحوكمة في المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية بالقاهرة. أوليفييه إيكر هو زميل أبحاث أول في قسم إستراتيجيات التنمية والحوكمة؛ جوزيف جلوبر وديفيد لابورد زميلا أبحاث في قسم الأسواق والتجارة والمؤسسات في المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية. الآراء الواردة في هذا المنشور هي آراء المؤلفين.