دكتور محمد القرماني
كشف التقرير السنوي لحالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم الذي نشرته مجموعة من وكالات الأمم المتحدة قبل بضعة أشهر عن بعض المستجدات المروعة والمحبطة الناتجة عن انتشار انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية في العالم وزيادة خطورتهما. أفاد التقرير أنه في عام 2020 لم يتمكن ما يقرب من ثلث سكان العالم من الحصول على الغذاء الكافي، وبلغ عدد من يعانون من الجوع 811 مليون فرد، وأصاب التقزم أكثر من خمس الأطفال دون سن الخامسة، وأصاب الهزال 45.4 مليون طفل.
ربما تكون الحقيقة الباعثة على القلق هي التباين الكبير في حالة انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية بين الرجال والنساء. وبحسب التقرير، كان معدل انتشار انعدام الأمن الغذائي المعتدل أو الشديد بين النساء أعلى بنسبة 10 في المائة منه بين الرجال. بالإضافة إلى ذلك، ترتفع معدلات انتشار فقر الدم كثيرًا بين النساء، إذ يؤثر على ما يقرب من 30 في المائة من النساء في سن الإنجاب (بين 15 و49 سنة). وتزداد هذه الفجوات بين الجنسين في بعض المناطق الجغرافية عن غيرها، فنجد أن نسبة النساء اللاتي عانين من فقر الدم في غرب أفريقيا قد تجاوزت نسبة 50 في المائة في عام 2019.
تُعزى هذه الاختلافات والتفاوتات بين الرجال والنساء في الأمن الغذائي والحالة التغذوية إلى عدد كبير من الأسباب، ومن بينها عدم المساواة بين الجنسين، والأعراف الاجتماعية، وهيكل السلطة في الأسرة، والعوامل الاقتصادية، فضلاً عن نقص المعرفة التغذوية ووعي الشخص باحتياجاته التغذوية والغذائية. تشير الأدبيات والتقارير إلى أن الأدوار النمطية للرجل والمرأة والثقافة الأبوية تضع النساء في أوضاع أقل تفضيلًا وأقل قوة من حيث توزيع الطعام بين أفراد الأسرة الواحدة، إذ لا يُعترف بحقوقهن الغذائية بنفس القدرة الذي يحظى به الرجل، فنجد أن العديد من المجتمعات[ii] تعطي الأولوية للرجال والأفراد الذكور داخل الأسرة في استهلاك الغذاء من حيث حصص الوجبات الغذائية ومكوناتها. ويتمتع الرجال أيضًا بميزة أكبر في استهلاك مجموعات غذائية معينة خاصة البروتين الحيواني، مثل اللحوم والأسماك [iii].
رغم أن قدرة المرأة على المساومة داخل الأسرة هي أحد العوامل المهمة في تحديد الحقوق الغذائية للمرأة داخل المنزل، إلا أن توزيع الحصص الغذائية بين أفراد الأسرة يُعد أكثر تعقيدًا مما هو متوقع. ويبدو أن العديد من العوامل الاجتماعية والثقافية والشخصية والعاطفية والاقتصادية والجغرافية تلعب دورًا حاسمًا في تحديد من يحصل على الطعام، وتوزيع كميته بين أفراد الأسرة، فعلى سبيل المثال، عادةً ما يحصل أفراد الأسرة العاملين أو المعيل على المزيد من الطعام ذي الجودة الأفضل، إذ تعتقد الأسر ذلك صائبًا من الناحية الاقتصادية كون هؤلاء الأفراد يساهمون في النفقات المنزلية. وبالمثل، قد تخصص الأسر المزيد من الطعام للأطفال المسجلين في المدارس، أو الذين يقطعون مسافاتٍ طويلة للعمل أو الدراسة. وتدفع المسؤولية الأخلاقية والعاطفية للنساء أنفسهن لإعطاء الأولوية لأطفالهن عند عدم توافر طعام يكفي الجميع. ورغم منطقية العديد من هذه العوامل من حيث السياق، إلا أنها لا تؤدي دائمًا إلى أعلى عوائد اقتصادية للاستثمار في التغذية الأسرية وترتيبات تخصيص الغذاء. ونجد أن أفراد الأسرة لا يتناولون الطعام المناسب والكافي اللازم لنمو أجسامهم وممارسة وظائفهم البدنية بشكل طبيعي، وبالتالي سوف يعانون في نهاية المطاف من سوء التغذية أو نقصها، مما يؤثر على حالتهم الصحية ويزيد من النفقات الطبية والصحية اللاحقة، ومنها نفقات شراء الأدوية والمكملات الغذائية وزيارات الطبيب ودخول المستشفيات، وما شابه ذلك من نفقات.
يؤدي التوزيع غير العادل للغذاء بين أفراد الأسرة وحصة المرأة غير العادلة من استهلاك الغذاء إلى حدوث آثار كبيرة. ويعتبر الأفراد الذين يستهلكون كميات أقل من الطعام أو طعام أقل تنوعًا مما تحتاجه أجسامهم للقيام بوظائفها على نحو سليم ونموها، هم الأكثر عرضة للأمراض المتعلقة بالتغذية التي تؤثر على أدائهم البدني وقدراتهم المعرفية وسلامتهم العاطفية والنفسية. وبالتالي، ربما تعاني النساء اللاتي لا تحصلن على التغذية المناسبة من ضعف صحي، وتحصيل تعليمي أقل، وإنتاجية عمل منخفضة، وكلها أمور تؤدي إلى تفاقم عدم المساواة بين الجنسين في التعليم، والمشاركة في سوق العمل، وجوانب أخرى من النشاط البشري.
والأهم من ذلك، أن سوء التغذية (أي تناول وجبات غير متوازنة) أو نقص التغذية (أي نقص تناول المواد المغذية) لدى النساء يؤثر على الرضع والأطفال الذين لم يولدوا بعد، إذ تنقل الحوامل والمرضعات اللواتي لا يتناولن وجبات كافية ومناسبة نقص المغذيات إلى الأجنة والأطفال الذين يصبحون فيما بعد أكثر عرضة للإصابة بقائمة كاملة من الأمراض المرتبطة بسوء التغذية مثل فقر الدم والتقزم والهزال والسمنة والكساح. وتشير الدراسات إلى أن ما يقرب من 12 في المائة من الوفيات بين الأطفال دون سن الخامسة ناتجة عن نقص في أربعة مغذيات دقيقة أساسية (الحديد واليود وفيتامين أ والزنك)، ويرجع السبب الأساسي في ذلك إلى حدٍ كبير إلى سوء تغذية الأمهات[iv].
يتطلب التعامل مع الصعوبات والأضرار المرتبطة بانعدام الأمن الغذائي داخل الأسرة، واستهلاك المرأة غير العادل من الغذاء بين أفراد أسرتها، وضع سياسات وبرامج مبتكرة ومتطورة تركز على معالجة الأسباب الجذرية للمشكلة. وجدير بالذكر أن الغذاء لا يوزع بين أفراد الأسرة بشكلٍ عشوائي، بل غالبًا ما تحصل النساء عن قصد على حصص غذائية غير متكافئة، وهذا الأمر يبدو منطقيًا ومقبولًا من الناحية الثقافية. وعند تصميم السياسات والتدخلات المتعلقة بالتغذية، يتعين على صناع السياسات والممارسين أن يكونوا على دراية بالديناميات والأساس المنطقي لقرارات توزيع الحصص الغذائية بين أفراد الأسرة، نظرًا للتعقيد الذي يشوب تغيير سلوك استهلاك الغذاء وهيكل السلطة داخل الأسرة، ولا يُفترض بنا أن نعتقد أن هذه المعضلة يمكن حلها بوضع سياسة واحدة أو برنامج تغذية واحد.
التدخلات التغذوية التقليدية التي تقدم المساعدة الغذائية العينية للأسر المستحقة منخفضة الدخل لا تكفي للحد من انعدام الأمن الغذائي على مستوى الأسر المعيشية، بل ربما تؤدي إلى تفاقم المشكلة وزيادة عدم المساواة الغذائية داخل الأسرة إذا لم تكن هناك آلية لضمان توزيع الغذاء بشكلٍ عادل بين أفراد الأسرة. وعلى هذا النحو، ينبغي استكمال برامج المساعدة الغذائية العينية بمكونات التثقيف التغذوي والأعراف الاجتماعية. علاوةً على ذلك، تشير مجموعة من الأبحاث إلى أن محو أمية الإناث وبرامج التمكين الاقتصادي لا تعزز فقط قدرة المرأة على المساومة في المنزل، وبالتالي زيادة حصتها من الغذاء، بل ترفع وعي المرأة بالاحتياجات الغذائية والتغذوية لأنفسهن ولأطفالهن.
د/محمد القرماني، رئيس قطاع مختبر الأبحاث ببنك الطعام المصري
** نشر بنك الطعام المصري هذه المدونة في 28 فبراير/شباط 2022.
[i] منظمة الأغذية والزراعة، والصندوق الدولي للتنمية الزراعية، ومنظمة اليونيسيف، وبرنامج الأغذية العالمي، ومنظمة الصحة العالمية. 2021. تحويل النظم الغذائية من أجل الأمن الغذائي وتحسين التغذية وتوفير أنماط غذائية صحية ميسورة الكلفة للجميع. التقرير متاح على الرابط التالي: https://www.fao.org/3/cb4474en/cb4474en.pdf
[ii] هيلين إيه هاريس فراي وآخرون. (2018). حالة ومحددات تخصيص الغذاء داخل الأسر المعيشية في ريف نيل. المجلة الأوروبية للتغذية السريرية، 72: 1524-1536.
[iii] أولوسيغون فوداري، جورج مافروتاس، داري أكيريلي وموتونرايو أوييمي. (2018). استهلاك الأغذية الغنية بالمغذيات الدقيقة، وتخصيص الغذاء داخل الأسر، وتقزم الأطفال في المناطق الريفية في نيجيريا. التغذية الصحية العامة، 22 (3): 444-454.
[iv] تحميد أحمد، ومتقينة حسين، وكازي إستياك سانين. (2013). العبء العالمي لنقص تغذية الأم والطفل ونقص المغذيات الدقيقة. حوليات التغذية والتمثيل الغذائي، 61 (ملحق 1): 8-17.